الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

هل تذكرون “المُستقلّة”؟

عبد الكريم النّاعم

– أخاطب الذين عايشوا تلك الأيام، في تسعينيات القرن الماضي، لا أستطيع أن أحدّد السنة، فقد اعتذرتُ سابقا بأنني في حالة تنافر مع الأرقام، أي أنّ هذا الكلام يحتاج العودة للوراء قرابة ثلاثين عاما، أمّا الأجيال الحالية فقد يعنيها مضمون ما سنورده لا أكثر.

– في ذلك الزمن فاجأتنا فضائيّة، الأرجح، إنْ لم يكن المؤكّد، أنّها كانت تبثّ من بريطانيا، بريطانيا الثقة!! بريطانيا الأم الحنون لوعد بلفور، بريطانيا التي ما تنتهي مخازيها تجاه العرب، وأحد الأماكن التي يلجأ إليها قادة الاخوان المسلمين حين “تضايقهم” حكومات بلادهم.. نبقتْ هذه المحطّة، وسمّت نفسها “المستقلّة”، وكان شعارها الأبرز، بحسب ادّعائها، أنّها تريد أن تسلّط الضوء على جزئيّات الخلافات بين المذاهب الاسلاميّة، بهدف جعلهم يتحاورون، ليصلوا إلى الوقوف على أرض مشتركة.

– كان صاحب، أو مدير هذه الفضائيّة تونسيّاً، وكان يطالع المشاهدين بلباس تونسي شعبي، وبوجه باسم، وأحيانا، حيث يحتمل الموقف، يتلو بصوته غير المناسب للتلاوة، بعض آيات القرآن الكريم.

– كان يُحدّد لضيوفه المتلاسنين، ولا أقول المتحاورين، موضوعا، من الموضوعات الاسلاميّة الشائكة، المستعصية، ويطلب الحوار فيها، والواضح أنه كان يُخبرهم بما عليهم أن يبسطوا آراءهم فيه، فيأتي الضيف، و”لابتوبه” المزوَّد بما يدعم رأيه، وقد اختيرت مواضيع هي على درجة كبيرة من الحساسية والخلاف، وهذا يؤكّد أنّ الأمر مبيّت، ولا تخفى أغراضه الملغومة على ذي بصيرة، ويبدأ الحِجاج، وتقليب الصفحات الصفراء جدّاً، وتتلوّن وجوه المتحاورين الأشد صفرة، وعلى هذه الشاشة، عرفنا، على سبيل المثال، الشيخ عدنان العرعور، وأضرابه من العراعير.

في تلك الفترة أذكر أنني نشرت مقالة تحذّر من هذه المحطة، وأسميتُها “المستغلّة”، لا “المستقلّة”، لأنّها أبعد ما تكون عن روح الاستقلال، وممّا قلته أنّ هذه المحطّة تفتح جيفة التاريخ المُنتنة بما فيها من روائح عفنة.

– لم تكن المواضيع المُثيرة لتجديد الشقاق، وإثارة الفتنة من جديد.. لم تكن وحدها التي أوقفتْني على الحقيقة، بل كان ثمّة أشياء وأسئلة، منها مَن الذي يموّل هذه المحطّة، وهل يُعقل أن يكون مَن يدير الحوار؟!! وصاحب الرأسمال يسعى لتثميره، وهذا ما لا تحقّقه هذه الفضائيّة.

ما وراء تلك المحطة ظلّ مجهولا بالنسبة لي ولأمثالي، لكنّ ما لم يكن مجهولا الأهداف التي تُضمرها، وما هي الغاية من وراء ذلك.

ليست الغاية من هذه المقالة أن أذكّر، على أهميّة ذلك، بل الغاية أن أؤكّد أنّ عدوّنا، أقصد أعداءنا مجتمعين، يخطّطون خططا خبيثة لا تُعرف في حينها، بل تتكشّف آثارها بعد أجيال من السنوات، وأنا أجزم الآن أنّ تلك الفضائيّة قد كانت القصف التمهيدي لأعوام الخراب العربي الذي شمل العديد من المناطق في هذا الوطن، وأجزم الآن أنّه يخطّط لِما هو أبعد، لا سيّما بعد أن فشلت مخطّطاته فيما كان يريده من عشريّة الخراب، ولم توصله إلى مبتغاه، فهو لن يسمح، إذا تمكّن، أن يكون ثمّة نهوض جديد، بل هو يبتكر كلّ يوم ما يجعلنا في موقف اللاّهث وراء المجريات، حتى لا نتفرّغ لما يؤهّلنا للخروج من تلك الوهدة، وهذا يوجب تحديد الحقول الصالحة لإنبات النباتات التي نرغب فيها، على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة، الماديّة والروحيّة، ولا يتحقّق هذا إلاّ بأيد مؤمنة بحقّنا، وأن يتحلّى القائمون عليها بالغيريّة لا بالأثرة، وأن تتجاوز رؤاهم معطى الواقع لترسم شكل المستقبل الذي يحقّق الكفاية، والعدل، ويفتح آفاق سموات جديدة…

aaalnaem@gmail.com