ثقافةصحيفة البعث

القدود الحلبية

فيصل خرتش

تساءل القس السرياني مار أفرام: “ما بال هؤلاء الناس في حلب يأتون إلى الكنيسة يوم أحد، وينقطعون أحاداً متتالية؟ فلأصنع لهم عملاً يحبونه ويأتون من أجله إلى الكنيسة”. وراح يبحث عن أحبّ الأشياء إليهم، واكتشفه دون طويل عناء، إنه الغناء، وقد سحرتهم الأغاني الشعبية التي كانوا يردّدونها في أعيادهم واحتفالاتهم. وحين تمعّن في ألفاظها ومعانيها، لم يرها مناسبة ليتغنوا بها أمام محراب الرب، وخطر على باله أن يأخذ اللحن الذي يحفظونه، وعمد إلى النص فغيّره إلى كلام ديني منظوم على أعاريضه، أخذ الناس الذين في الكنيسة يردّدونه، يأخذون النص الجديد ويغنونه باللحن المألوف لديهم، وهكذا عرف أقدم (قد) في حلب.

ويعرف لنا خير الدين الأسدي، في مجموعته، القدود الحلبية، فيقول: “القد من مصطلحات الغناء، أطلقت على المنظومة الملحنة حسب تلحين غيرها من عربية أو تركية، وجمعوها على القدود، وسميت بالقدّ لأنها على قد غيرها نظماً ولحناً”.

في العام 1731 جمع بشارة الراهب الحلبي في دير الزعفران بالقرب من مدينة ماردين تراتيل وألحاناً عرّبها عن أصولها السريانية.

في حوالي عام 1845 ألف ميخائيل صولا قدّين أحدهما: “شقيق الروح حيَانا وبالألطاف أحيانا”، ويقول عن لحن هذا القد: إنه كان أغنية شائعة في زمانها، وقد لحنها شأن كلّ الأغاني غير المضبوطة بالتنقيط الموسيقي.

الحاج مصطفى الأنطاكي الحلبي المتوفى عام 1891 له قدّ على لحن “إذا انجلو”، يقول “مذ أقبلوا أخجلوا الأغصان بالقد المائل”. وله قدّ آخر مطلعه: “منية الأرواح منت بالتلاقي”.

ولقسطاكي حمصي (1885- 1941) قدّ مطلعه: “يوم النوى كوى فؤادي”.

ومسعود الكواكبي وجد له في ديوانه ما يلي:

لقد بدل النشار فينا أغانينا         من اللهو مدحا في الحبيب المعظم

ومن مآثر الشعراء الأندلسيين ابتكارهم لموشح أسموه “المكفر”، وصفته أن ينظم أحدهم شعراً دينياً قدّاً على موشح غزلي، نظمه في غابر أزمانه، ضمنه من المعاني ما يتوافق وأهواء الصبا ونوازع الشباب، فراح المغنون ينشدونه، فيأتي وقد وخط الشيب رأسه، يستغفر الله بالقدّ عما اقترفت عبقريته الشعرية، مضمناً إياه معاني الاستغفار أو التوسل أو الابتهال تكفيراً عما جنته يداه.

وذاك ما فعله في أواسط القرن التاسع عشر شعراء المغرب بموشحات النوبة، فأزاحوا الشعر الغزلي الذي كان قد وضع اللحن له، واستعاضوا عنه بشعر ديني (قدود) نظموه على أعاريض القصائد القديمة، فغابت المعاني الغزلية من تراثهم الغنائي إلا فيما ندر، وبعض المنشدين يقولون: إنه موشح من الدرجة الثانية، فالموشحات أرقى صنعة وأعلى صياغة، ليس لها سابق، وهناك ألحان أخرى، وضعت على نصوص شعرية أو زجلية، جاءت أشد ترابطاً، وأمتن تأليفاً، وأكثر تعقيداً من حيث إيقاعاتها، كلّ هذا من حيث النص الشعري فهو والموشح صنوان، فأنت ترى شعراً رائع الألفاظ رفيع المعاني شائق التراكيب جميل المحتوى سهل المتناول، ونحن هنا أمام مسميين لشكل واحد من أشكال الغناء في حلب، إذ لا يمنع أن يصوغ أحد الشعراء نصاً جميلاً سهلاً دون الإسناد إلى نص سابق، فيأتي ملحن ويضع له لحناً من مستوى الـ قدّ وفي قالبه، ومن ثم يدخل ضمن ما يغنى في وصلة القدود، كما لا يمتنع عنه المعنى الآخر، إذ يكون صيغ على ميزان شعر نص سابق منسي مندثر، أو لحن أحبه الجمهور، فيستمر الآخر حافظاً لنا اللحن، موصلاً لنا إياه، وفي هذه مأثرة من المآثر، أو قد يستمران معاً، وخلاصة القول: إن هناك ألحاناً بنصوص محدثة في قالب القدّ ليس لها سابق، وأخرى وضعت على نصوص شعرية أو زجلية، ويجب أن يراعي حين يتمّ استخدامها العروض والدقيق والمدود والقافية وحرف الروي التوافق اللفظي مع اللحن والإيقاع الموسيقي.

وكان أهل الذكر يأخذون من الغناء الشعبي ما يعجبهم ويصوغونه عوضاً عن الزجل المغنى شعراً، وكانت لا تخرج عن الابتهال والتوسل، والعكس أن يأتي الزجال إلى النص الديني بالفصحى، فيصوغ عليه زجلاً يناسب الحفل التي يريد غناء النص فيها، ومن أمثلته:

يا إمام الرسل يا سندي     أنت بابــــــــــــــــــ الله معتمدي

وهو لحن من مقام البياتي وقده الزجل:

تحت هودجها وتعالجنا     صار سحب سيوف يا ويل حالي

وشعراء القدود كثر، وسوف نتعرّض لأكثرهم شهرة:

عبد الغني النابلسي، وتوفي عام 1720، وهو الشاعر المتصوف والملحن العبقري، عالج كافة أشكال الإنشاد الديني، حتى إن كثيراً من ألحان المسجد الأموي بدمشق ينسب إليه.

يليه الشاعر الحمصي الشيخ أمين الجندي، وهو شاعر صوفي متميز، يبدأ بالغزل ثم ينتقل إلى الجفاء والهجر والشوق إلى لقياها، وإليك مثال على ذلك:

يا ظلام السجن خيم                إننا نهوى الظلاما

وعلى لحنها:

دع جمال الوجه يظهر               لا تغطه يا حبيبي

طول ليلي فيك أسهر                زاد شوقي ونحيبي

ويمضي هكذا إلى آخر القصيدة.

الشيخ عيسى البيانوني المتوفى، 1943، وله شعر كثير في الزهد والتصوف، وقد أحسن صوغ القدود على أعاريض قدود الزجل والفصحى.

كثر هم الشعراء الذين كان اهتمامهم بالنسج على منوال القدود، لكننا نكتفي بهؤلاء فقط، ونقول إن أفضل من غنى القدود ولحنها هو الفنان صباح فخري الذي مات حديثاً.