دراساتصحيفة البعث

خيرسون.. تهيؤات ليس إلا!

علي اليوسف 

لم يأتِ انسحابُ القوات الروسية من خيرسون تحت ضغط أو ضربات عسكرية من الطرف المقابل، بل جاء الأمر بملء الإرادة، وهذا يعني في العلم العسكري أنه انسحاب إستراتيجي، أو بمعنى آخر انسحاب تكتيكي لهدف أكثر أهمية في قادم الأيام.

منذ الإعلان عن هذا الانسحاب، سارعت البروباغاندا الغربية لإظهار الأمر على أنه تراجع روسي في مسار العمليات العسكرية، لكن ليس هذا هو الواقع على الإطلاق، لأن الأهم للقوات الروسية هو الحفاظ على التمركز في نقاط التثبيت التي، بلا شك، تمّ تحديدها مسبقاً منذ انطلاق العملية الخاصة الروسية، أي أن الهدف المرجو قد تحقق، والآن يعاد التموضع والتمركز في تلك الأماكن المحدّدة بعد إجراء تطهير لمسافات أمان، والتي يعني أنها كانت خيرسون.

ومن الخطأ هنا الاعتقاد أن الانسحاب يعدّ “تطوراً مهماً”، أو “تاريخياً” كما روّجت له وسائل الإعلام الأمريكية وزيلينسكي نفسه، بل على العكس فإن هناك شيئاً آخر يشير إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين يتصرف بعقلانية، وربما بعقلية الـ”كي جي بي” التي يشهد لها العالم، لأن الانسحاب من مدينة خالية، لا يوجد فيها أي قتال، يعني أن الانسحاب منها لا يشكّل فارقاً عسكرياً كبيراً، وأن هذا الانسحاب لن يقدّم أي قيمة عسكرية إستراتيجية، على عكس ما جرى في جسر كيرتش في شبه جزيرة القرم الذي كان يحمل أهمية كبيرة لبوتين.

تشير جميع المعطيات الأخيرة إلى أن بوتين يدركُ أن روسيا في اللحظات الأخيرة لإعلان الانتصار في الحرب، ولهذا السبب أعطى الأوامر بالانسحاب للتفرغ لهندسة الانتصارات العسكرية وتمهيداً للمرحلة القادمة، وتحديداً مرحلة ما بعد الإضرابات التي بدأت تعصف بالقارة العجوز نتيجة السياسات الخاطئة لقادتها، ولمرحلة ما بعد التضخم الأمريكي والتنمّر على الحلفاء في أوروبا ومناطق أخرى من العالم.

لذلك، لا يعتقد أحد أن الرئيس بوتين بدأ بالتراجع، لأن حدود الانسحاب ملحوظة في خطة العمليات العسكرية قبل التنفيذ، أي أن نقاط الوصول، أو الخطوط الحمراء لحلف الناتو قد رُسمتْ، وبالتالي لن يكون هناك أكثر مما هو عليه الحال حالياً. وهذا يعني من منظور آخر أن مسار العمليات العسكرية في مناطق أكثر أهمية من خيرسون لن يتوقف، بل سيستمر، ولكن ببطء لفترة ما بعد الشتاء السلاح الأقوى الذي تملكه روسيا الآن في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة التي وضعت كلّ أوراقها الاقتصادية والعسكرية ضد روسيا.

وأمام هذا المعطى، فإن الجميع فقد أوراقه التفاوضية، باستثناء روسيا التي بدأت تأخذ زمام المبادرة عبر الصبر الاستراتيجي الذي قاده الرئيس بوتين بحنكة عالية، وبالتالي جعل الجميع يعيشون حالة يصعب جداً التنبؤ بما يخطّط له في المستقبل، خاصةً وأن هناك كثيراً من الأمور المجهولة في المجالين العسكري والسياسي لدى عقله الاستخباراتي لدرجة أن أي تنبؤات أو تهيؤات هي تخمينات ليس إلا!.