الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

تداعيات

عبد الكريم النّاعم 

التداعيات المعنيّة هي أن تبرز في مساحة تفكيرك فكرة فتستدعي فكرة أخرى لا علاقة لها بالأولى، والفكرة التالية تستدعي فكرة ثالثة، وهكذا دواليك!!

أنا أكتب الآن والساعة الثالثة والربع بعد منتصف الليل، أستغلّ هذا الوقت فقد يكون وقت الكهرباء ليلاً أكثر انتظاماً في عدم تقطّعه، فالذين لا يهمّمهم الوقت أو الغلاء، بل هم يعيشون في عوالم لا علاقة لها بعوالمنا لا يتجاوزون نسبة خمسة بالمئة.. هذا في أحسن تقدير، ومَن يستطيع تأمين كل شيء لا يهمّه نافخ روحه. وعلى ذكر.. “الخمسة بالمائة”، فقد عرف أبناء جيلي في سبعينيات القرن الماضي، رجلا بالاسم كان مهمّاً، وكان من ذوي الحلّ والرّبط، وشاع اسمه مسْترْ خمسة بالمائة، فقد كان لا يمرّ من بين يديه مشروع، ولا صفقة، إلاّ ويتقاضى عليها نسبة خمسة بالمائة. وهذه العمولة شائعة في الصفقات الكبرى والصغرى عمّمّتْها الشركات المنتجة لبضاعة ما، وتريد الرّواج لها فهي تحدّد هذه النسبة، وتضيفها ضمنا على ما تسعّره، فهي لا تخسر شيئا بل تكسب أشياء على حساب المستهلك. وعلى ذكر.. “شيئاً”، فقد خطر ببالي الصديق محمود عبد الواحد الذي كنّا نقصد صفحته للترويح بعض الشيء، هذا إذا كان قد بقي شيء تقبله النفس من تلك الأبواب، فنجد فيها بعض ما يؤنس الروح، فإذا به في عودته الأخيرة يكاد يكون واحدا مثلنا، رغم تميّزه. شكوتُ هذا إلى صديق مشترك فأجابني: من اين يأتيك بما قد يسرّ وقد غاب الفرح إلاّ عن أبواب مَن هم في عداد “الخمسة بالمائة”؟.. يا لهذه “الخمسة” التي تتّسع وتنداح على شكل دوائر بحسب الشكل الهندي الذي أخذنا به!!

على حظي، انقطعت الكهرباء، وتوقّفت الدّفّاية الكهربائيّة، وأنا – كما تعلمون – في وهدة الشيخوخة، انقطعتْ بعد حوالي ثلث ساعة. كانوا سابقاً يتركونها ساعة كاملة ليلاً، فالناس نيام، وعليّ أن أغادر لأعود لتكملة ما بدأت في وقت آخر، فإنّني أخشى أن تؤدّي ضيقة أخلاقي إلى ما لا تُحمَد عقباه. وعلى ذكر.. “عقباه”، يردّد الناس منذ أزمنة قديمة في بلادنا “اللهم أحسنْ عاقبتنا”، وقد وعدنا البعض أنّ الدّعاء يردّ القضاء، وقد أُبرِم إبراماً، وقالوا عن الدّعاء إنّه مجانيق الضعفاء، فقالوا فيه “اتّقوا مجانيق الضعفاء”، فسألوا “ما هي هذه المجانيق” فقالوا “هي دعاؤهم على مَن ظلمهم”.

على ذكر.. “المجانيق”، تساءلتُ: تُرى كم من المجانيق الرافعة تحتاج رواتبنا لنستطيع تأمين ما يُقيم أودنا؟ لا نريد أن نتشهّى، نريد أنْ لا نحمل همّ الوجبة القادمة كيف نستطيع تأمينها!! وها قد حلّ الشتاء وجاء البرد، فماذا نفعل لتأمين التدفئة؟ حتى لو لبسنا كلّ ما تبقّى لدينا من ثياب فلن تغني عن المازوت!! هذا المازوت الذي كانت معدتي تتشنّج من رائحته، أشعر الآن أنّه أرقى من روائح العطور الباريسيّة،.. انقطعت الكهرباء بعد ربع ساعة من حلولها الشريف.

جاء التيار الكهربائي في غير موعده، بعد ساعتين تقريبا، وما ندري كم يدوم، والأرجح أن يكون خطأً!، وسنحاول تكملة هذه التداعيات التي أخذت منّا من البارحة وحتى اليوم لإنجاز زاوية لا يتجاوز عدد كلماتها خمسمئة كلمة إلاّ بقليل!! أليس في هذا ما يجعل المرء يطقّ من القهر؟!! برْد، ما أحلى ذكريات يوم كان يزعجنا باعة المازوت بأصواتهم: “مازوت.. ماظوط.. طوطْ .. طوطْ”.. طيّب الله ذكر تلك الأيام، وها نحن كما قيل “وَليستْ عشياتُ الحمى برواجع”.

حمدا لله لم تنقطع الكهرباء، واكتمل عدد الكلمات…

aaalnaem@gmail.com