لم تكن أدفأ مما هي عليه اليوم.. الجزائر حلقة رئيسية في سياسة موسكو المغاربية والأفريقية
“البعث الأسبوعية” – علي اليوسف
يشهد ملف الجزائر، كل يوم، توتراً متزايداً على خلفية علاقة الجزائر مع روسيا، حتى وصل الأمر بعدد من أعضاء في الكونغرس للتوقيع على رسالة تطالب وزير الخارجية بفرض عقوبات على الجزائر بسبب علاقتها مع روسيا وخاصة على المستوى العسكري، تطبيقاً لقانون “معاداة أمريكا”.
ويرجع هذه التوتر إلى موقف الجزائر المعارض للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وقد يكون استهدافاً لمنعها من لعب دور عربي وأفريقي وأممي، لكن بكلتا الحالتين لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاوز الخطوط الحمراء، وهو ما يفسر الصمت الذي التزمته واشنطن تجاه الجزائر بشأن علاقاتها مع روسيا، لأن أمريكا بحاجة للجزائر كشريك في مجال الطاقة، وعلاقتهما لن تتأثر بأي ضغط حتى لو أتى من الكونغرس.
وليس أعضاء الكونغرس وحدهم الممتعضون من علاقات الجزائر وروسيا، ففي إطار “روسفوبيا”، والتدخل في قرارات الدول المستقلة، عبّر برلمانيون أوروبيون برسالة إلى أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، عن امتعاض أوروبي وصل حد المطالبة بمراجعة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجزائر، وحجتهم أن الحكومة الجزائرية أظهرت منذ بداية الأزمة في أوكرانيا الحياد والحفاظ على علاقاتها مع روسيا كما مع أوروبا، إضافة إلى أنها تقوم، بما اعتبروه، تمويلاً لموسكو من خلال شراء الأسلحة الروسية.
هذه المواقف، لاشك أنها تؤكد، وبكل وضوح، أن الدول الغربية تريد من وراء هذه الضغوط ابتزاز دولة مستقلة، ومنعها من توطيد العلاقات مع روسيا.. دولة طلبت رسمياً الانضمام إلى “بريكس”، وأيد ترشيحها بشدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث يجري التحضير لزيارة الرئيس عبد المجيد تبون إلى روسيا نهاية العام الجاري، كما أعلن وزير الشؤون الخارجية الجزائرية والجالية الوطنية في الخارج رمطان لعمامرة.
التخلي عن الاعتبارات الإيديولوجية
في أعقاب التطورات الكبيرة التي يشهدها العالم، ولاسيما التوسع الغربي في مناطق جغرافية قريبة من الحدود الجنوبية لروسيا، ارتأت روسيا ضرورة إعادة فتح علاقاتها مع الدول العربية المغاربية، وتحديداً الجزائر، حيث كان هذا التوجه ملحوظاً من قبل الرئيس بوتين الذي وجه بالتخلي عن الاعتبارات الإيديولوجية في السياسة الخارجية الروسية، والأخذ في الاعتبار المصالح الاقتصادية في الدرجة الأولى، فكانت أول زيارة له لشمال أفريقيا، في عام 2006، وهو بذلك أول رئيس روسي وطأت قدماه المنطقة منذ أكثر من ربع قرن، زار فيها الجزائر طبقاً لخريطة التحالفات الروسية أيام الحرب الباردة.
في الماضي، وبعد فترة من الشكوك والتردد لدى القيادة في روسيا الاتحادية، في المرحلة التي تلت التفكك، تم لحظ التوجهات الليبرالية للقيادة المسؤولة داخل الكرملين، ولم يقتصر التحول على القائمين على رأس السياسة الخارجية، بل امتد إلى الصفوة الروسية بكامل اتجاهاتها، والتي كانت أكثر اهتماماً بعملية تحويل البلاد إلى نظام ليبرالي ديمقراطي.
لقد اتسمت الإستراتيجية الروسية بنوع من الواقعية من خلال سعيها إلى بناء سياسة براغماتية عن طريق المزيد من الابتعاد عن الحجج الإيديولوجية التي كانت تتحكم بالتحرك الدبلوماسي السوفييتي السابق، وإحلال مبررات سياسية واقتصادية أكثر وضوحاً وتعبيراً عن تطلعات روسيا المستقبلية. وقد تجلت هذه الواقعية بقدوم بوتين الى الكرملين، حيث يمكن استشفاف التوجهات الجديدة من خلال قطع العلاقات مع الماضي الشيوعي، والتخلي عن جميع ركائز الحرب الباردة، بما فيها الإيديولوجية الماركسية – اللينينية. وقد حافظ بوتين على هذا الخط نفسه من حيث التوجهات العامة، وانعكاس أوضاع روسيا الراهنة على علاقاتها الخارجية.
وعلى الرغم من تصريح الرئيس بوتين في أكثر من مناسبة أن تفكك الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الماضي بالنسبة للشعب الروسي، إلا أنه جدد النهج البراغماتي للدولة الروسية بالقول في أكثر من مناسبة، أيضاً: “لكي يكون لك مكان تحت الشمس فلا بد أن تحتفظ بعلاقة جيدة مع الجميع”.
كان وصول بوتين إلى الحكم في عام 1999 بمثابة نقطة تحول في السياسة الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبشكل خاص في الفترة الثانية من ولايته التي بدأت في عام 2004، حيث بدأت موسكو تتقرب من الشرق الأوسط والدول العربية بأساليب جديدة، الأمر الذي ساهم في إعطاء الانطباع بأن روسيا قادمة، وأن إحياء الدور الروسي في المنطقة أمر لا مفر منه ولا يحتاج لجدال، حيث كان بوتين الأكثر جرأة واستعداداً لمواجهة الولايات المتحدة في المنطقة.
ومنذ ذلك الوقت، شهدت السياسة الخارجية الروسية عملية إعادة هيكلة، وأصبحت بمقتضاها أكثر واقعية تقيس تحركاتها واتجاهاتها بحجم ما تملكه من قوة عسكرية، ومصالح اقتصادية، إذ يمكن القول أن روسيا في عهد بوتين نجحت في التوفيق بين أهدافها الاقتصادية في المنطقة من جهة، وأهدافها الإستراتيجية من جهة ثانية.
تاريخ العلاقات الجزائرية – الروسية
كان الاتحاد السوفييتي السابق أول دولة في العالم تقيم علاقات دبلوماسية مع الجزائر المستقلة، وذلك في عام 1962، كما اعترفت الجزائر بروسيا الاتحادية رسمياً في عام 1991. ومنذ السنوات الأولى للاستقلال، كانت الجزائر الحليف الأكبر لروسيا في منطقة المغرب العربي، ولم تغير الحرب الباردة من هذه العلاقة الخاصة شيئاً. ومن هنا تبدو الجزائر حلقة رئيسية في سياسة روسيا المغاربية، بل والأفريقية، وهي بالإضافة لطابعها العسكري البارز ترتدي أبعاداً أخرى سياسية واقتصادية.
في نيسان عام 2001، قام الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بزيارة رسمية لروسيا الاتحادية، حيث تم في تلك الزيارة توقيع بيان حول الشراكة الإستراتيجية بين الدولتين. وفي 23 تشرين الثاني 2005 زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجزائر في إطار جولته في دول المغرب العربي. وفي آذار عام 2006 تم تتويج هذا الحراك بزيارة الرئيس بوتين الرسمية للجزائر، وزيارة الرئيس الجزائري بوتفليقة الرسمية إلى روسيا في نيسان 2008 للارتقاء بعلاقات البلدين، خاصة الاقتصادية والتجارية.
هذه التحولات الكبيرة، حوّل المنطقة إلى ساحة تنافس حول الطاقة، فكان سعي الاتحاد الأوروبي لتنويع مصادر إمداداته من الطاقة، والسعي، بالترهيب والترغيب، للاعتماد على دول جنوب المتوسط الجزائر وليبيا، وفق منظومة الشراكة الأورو متوسطية. هذا التحرك الأوروبي دفع لتحرك روسي موازي، فتقدمت روسيا بعروض سخية “جداً” للجزائر وليبيا، وعرضت التكامل مع شركة الغاز الجزائرية “سونا طراك”، وتقديم منح تجارية مغرية، الأمر الذي فسره الأوروبيون على أنه خطر استراتيجي عليها.
لماذا اختارت الجزائر العلاقة مع روسيا؟
لم تكن العلاقات الجزائرية الروسية أدفأ مما هي عليه اليوم، في وقت كان يقتضي أن تكون حذرة، أو على الأقل عدم المغامرة بتطويرها في ظل العقوبات الدولية ضد موسكو جراء عمليتها الخاصة في أوكرانيا.
ولطالما عبّرت الجزائر عن عدم ثقتها في الغرب من خلال مواقفها الرافضة لتوجهاته الإستراتيجية، فقد عارضت احتلال العراق والتدخل العسكري في ليبيا ومالي والساحل، كما رفضت إدانة العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، ودعمت الصين على طول الخط في صراع تايوان.
بمعنى أن الجزائر تقترب من روسيا بشكل مطّرد كلما شعرت بازدياد نفوذ الغرب في مجالها الحيوي، وهي بذلك تسعى لاستعادة نفوذها كقوة إقليمية لتكون محور استقطاب مفتوح بين روسيا والولايات المتحدة، في إطار لعبة التحالفات التي تديرها القوتان، حيث لم يتأخر الرئيس بوتين في التعبير عن موقف بلاده والعلاقاة الإستراتيجية مع الجزائر، ليكون بذلك قد رد سريعاً على مساعي الولايات المتحدة لإجهاض التحالف القائم بين الجزائر وموسكو.
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية مطلع العام الجاري، وجدت الجزائر نفسها بين مطرقة الغرب وسندان روسيا، ولكنها استطاعت النأي بنفسها عن الضغوط الكبيرة، فهي تلبي مطالب الغرب بضخ كميات إضافية من الغاز إلى الأسواق الأوروبية من جهة، وتستمر من جهة أخرى في تعاونها العسكري مع روسيا والحفاظ على مكانتها كزبون مهم لسوق السلاح الروسي.
يعرف عن الجزائر التزامها بمبدأ مقدس في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، هو النأي بالنفس عن التدخل في أي نزاع، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. هذا الموقف راسخ في دستور البلاد من خلال المادة 31 التي تنص على: “تعمل الجزائر من أجل دعم التعاون الدولي، وتنمية العلاقات الودية بين الــدول على أساس المساواة، والمصلحة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وتتبنى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأهدافه”، وضمن هذا السياق كان موقف الجزائر واضحا من الحرب في أوكرانيا.
خاتمة
لقد استطاعت روسيا إعادة إطلاق علاقاتها مع حلفائها التقليديين في المنطقة العربية على أسس جديدة، فضلاً عن أن مواقفها في العديد من القضايا الدولية والإقليمية والتي أصبحت أكثر وضوحاً عما كان في السابق، ساعدها في ذلك وجود قيادة واعية ذات رؤية للأولويات الوطنية، ولديها القدرة على تنفيذها وإدارة تبعاتها بكفاءة اقتصادية مكنتها من تحقيق درجات متزايدة من الاستقلالية في سياستها الخارجية.
وعلى مدى السنوات العشر الماضية، عملت القيادة في روسيا على التقرب من حلفائها التقليديين من الدول العربية وفي مقدمتها الجزائر، وقد استمرت هذه الأخيرة مثلما كانت في السنوات الأولى للاستقلال كأكبر حليف لروسيا في منطقة المغرب العربي، ولم تتغير هذه العلاقة الخاصة، إذ ركزت روسيا على الجزائر لأسباب براغماتية تتعلق بالوزن السكاني والاقتصادي والاستراتيجي في شمال أفريقيا. وعلى هذا الأساس تبرز ملامح سياسة بوتين الجديدة في المنطقة والتي تركز على الجزائر بصفتها المؤثر في المشهد الإقليمي، بالإضافة إلى أن لها مصالح حقيقية تسعى للحفاظ عليها وتنميتها، كما تسعى كذلك إلى شراكة استراتيجية بالمعنى الاقتصادي والتقني ذات عائد تنموي حقيقي. وفي هذا الإطار، ترتبط المصالح الروسية بثلاث قطاعات رئيسية هي: الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقني الصناعي والتنموي، والتعاون العسكري.
ويحتل التعاون والتنسيق الروسي – الجزائري في مجال الطاقة قمة أولويات الدولتين، فقطاع الطاقة يمثل أحد الآليات التي تتلاقى فيها المصالح بين البلدين، وهو جوهر الشراكة الروسية – الجزائرية في المستقبل والدعامة الأساسية لها، حيث تملك روسيا التكنولوجيا والخبرة اللازمة في مجال الكشف والتنقيب عن النفط واستخراجه، وهناك العديد من المشروعات التي تعد نواة للتعاون وتطويره بين الجزائر وروسيا في هذا المجال.
علاوة على ذلك، تمثل الجزائر سوقا مهمة للصادرات الروسية من السلع الإستراتيجية والمعمرة، مثل الآلات والمعدات والأجهزة والشاحنات والحبوب، كما أن هناك آفاق رحبة للتعاون الروسي – الجزائري في مجالات الطاقة النووية وتكنولوجيا الفضاء وتطوير البنية الصناعية الجزائرية، خاصةً أن روسيا لم تعد تتعاطى في صفقات التسليح فقط، وإنما أصبحت أيضاً مركزاً للتنسيق الغازي.
ومن هنا تبدو الجزائر حلقة رئيسية في سياسة موسكو المغاربية بل والأفريقية، إذ لا يمكن إنكار أن الطرفين الروسي والجزائري في حاجة للتعاون فيما بينهما بصرف النظر عن تباين المصالح والأهواء الخاصة لكل منهما، فالطرف الروسي يمثل دون شك شريكاً أساسياً للجزائر، كما أن هناك استجابة وإقبالاً واضحاً من جانب هذه الأخيرة للتعاون مع روسيا، وقد شهدت العشر سنوات الماضية تطوراً ملحوظاً وإيجابياً في العلاقات الروسية –الجزائرية ستتوج بدخول الجزائر مجموعة “البريكس” الاقتصادية القادمة بقوة الى المشهد العالمي.