مجلة البعث الأسبوعية

درس في اللعبة الاستراتيجية

 

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

هل تمكّن الحرب في أوكرانيا الولايات المتحدة من هزيمة روسيا؟. يجادل البعض في أن هناك الكثير من التكاليف الاستراتيجية التي يتوجب على واشنطن دفعها، وخاصةً أن المساعدات التي تقدّمها واشنطن منخفضة من الناحية الاستراتيجية الكبرى.

مع تقدّم المعارك، وارتفاع تكاليف المساعدات الغربية لتمويل الدفاعات الأوكرانية، بدأت تظهر التصدعات في المجتمع الأمريكي، حيث ارتفع عدد الأمريكيين الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة تفعل الكثير لأوكرانيا من 6 في المائة إلى 48 في المائة، والتي غذّتها دون شك الانتقادات المتزايدة من وسائل الإعلام.

في القيمة الاقتصادية للحرب، كان من الممكن أن تكون تكلفة إضعاف الجيش الروسي أعلى لو حاربت الولايات المتحدة روسيا نفسها. أما في القيمة الاستراتيجية للحرب بالوكالة، فهذه عملية غير مكتملة، إن لم تكن مضللة، لأنها لا تُظهر التكاليف الخفية العديدة التي تتحملها الولايات المتحدة بسبب حرب طويلة الأمد باتت مؤخراً أكثر انخراطاً فيها بعد أن تعهّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقديم حزمة أسلحة أخرى لأوكرانيا.

كل الحروب سواء كانت مباشرة أم بالوكالة تخضع إلى الإرادات، وهذه الإرادات مرتبطة بالصمود، حيث أظهر الرئيس فلاديمير بوتين، حتى الآن، أنه يستطيع الصمود أكثر من الأمريكيين، وذلك بسبب عدم توازن المصالح بين الولايات المتحدة وروسيا.

وفي الحسابات المالية، تكلفة الحرب الأوكرانية ليست قليلة حتى الآن، على عكس ما يروّج له صقور البنتاغون بأنها ليست سوى صفقة “فول سوداني”. لقد بلغ الدعم الأمريكي لأوكرانيا في عام 2022، 68 مليار دولار، وطلب البيت الأبيض 34 مليار دولار أخرى. وبالمقارنة، فإن الحرب في أفغانستان كلّفت 23 مليار دولار سنوياً في أول عامين. وفي عام 2011، في ذروة الطفرة، كلّفت الحرب 107 مليارات دولار، كما كلّفت حرب العراق 54.4 مليار دولار، و91.5 مليار دولار في أول عامين على التوالي. ووفقاً لمشروع تكلفة الحرب في جامعة براون، كلفت “الحرب على الإرهاب” الفاشلة 8 تريليونات دولار، وتسبّبت في مقتل أكثر من 900 ألف على مدار 20 عاماً.

لم تستهدف الحرب في العراق أو أفغانستان، منافسي الولايات المتحدة من القوى الكبرى، ومن هذا المنطلق، نعم، الحرب في أوكرانيا رخيصة، وتؤثر في القوة العسكرية للقوة النووية. ومع ذلك، فإن القول إن استمرار الحرب هو وسيلة ميسورة التكلفة لتحقيق هدف استراتيجي رئيسي أمر مضلل لأسباب ليس أقلها أنه قبل شباط 2022، كان عدد قليل في واشنطن يعدّ روسيا قوة عظمى يحتاج جيشها إلى التدهور، وكان يُنظر إلى روسيا على أنها تحدٍّ أصغر بكثير، بينما تم تحديد الصين أكبر منافس محتمل.

في عام 2021، قال عضو الكونغرس الديمقراطي آدم شيف: “الصين قوة صاعدة وتحدٍّ متزايد”. وقبل ذلك، في عام 2019، أوضح تقرير لمؤسسة “راند” الأمر بإيجاز: “روسيا ليست منافساً. في المقابل، تعدّ الصين منافساً نظيراً يريد تشكيل نظام دولي يمكّنها أن تطمح للسيطرة عليه”. هذا التقييم لم يتغيّر رغم العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، حيث قال وزير الدفاع لويد أوستن للصحفيين في تشرين الأول الماضي: “الصين هي المنافس الوحيد وروسيا لا تستطيع تحدّي الولايات المتحدة بشكل منهجي على المدى الطويل”.

من الواضح أن واشنطن تحاول التقليل من قيمة القوة الروسية، لكن في الحسابات الاستراتيجية كانت التكلفة مرتفعة جداً، فقد تم تشكيل تحالف روسي صيني إيراني، ومن الطبيعي أن تقترب الدول التي تواجه ضغوطاً من الولايات المتحدة من بعضها البعض. وبالفعل صدق هذا الواقع بشكل أكبر عندما تعززت العلاقات الروسية الإيرانية التي اكتسبت طابعاً استراتيجياً أكثر في العام الماضي.

في عام 1997، تحدّث بايدن، السناتور آنذاك، على قناة “سي-إس بي إيه إن” كيف أخبره الدبلوماسيون الروس أن توسّع الناتو سيدفع موسكو نحو بكين. ردّ بايدن رافضاً، “حظاً سعيداً. وإذا لم ينجح ذلك، فجرّب إيران”، بمعنى أن مثل هذا التحالف ببساطة لم يكن خياراً، ومع ذلك، هذا بالضبط ما يحدث الآن.

وليست إيران وحدها من انتقلت بعلاقاتها إلى المرحلة الاستراتيجية مع روسيا، لأن أحد المجالات التي كثّفت فيها روسيا تعاونها كان مع الصين، وخاصة إزالة الدولار من تجارتهما، وإنشاء أنظمة مالية بديلة محصّنة ضد العقوبات الأمريكية، حيث اجتذب هذا الجهد أيضاً اهتمام القوى الناشئة في جنوب الكرة الأرضية، التي تحافظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة، ولكنها ترغب في حماية تجارتها من أهواء السياسيين في واشنطن.

لقد صعّدت الحرب التوترات بين الولايات المتحدة وقوى الجنوب العالمية الصاعدة، التي ترفض الاختيار بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، مفضّلة بدلاً من ذلك عالماً متعدّد الأقطاب، حيث يكون لديهم خيار الموازنة ضد تجاوزات واشنطن. صحيح أن هذا النظام العالمي يبدو أن واشنطن ملتزمة بمنعه، إلا أنه يزداد احتمالاً كلما طال أمد الحرب.

ولعل الأهم من ذلك، أن الحرب الطويلة ستجعل من الصعب على أوروبا أن تجد طريقاً إلى السلام والاستقرار على المدى الطويل. وكلما طال القتال، زادت صعوبة إنشاء أي بنية أمنية أوروبية جديدة، وقد تجد أوروبا نفسها في حالة حرب مستمرة منخفضة الحدة تعزز العداء لعدة أجيال.