لؤي كيالي الذي كان يرسم “المعذبين” في الأرض
فيصل خرتش
كان الصباح يهلّ على روّاد مقهى القصر في حلب، واتجه “أبو الخير” ليعدّ فنجان القهوة المركزة، انتهى من ذلك وحمل الفنجان ووضعه في الصينية، ووضع بجانبه كأس الماء والسكرية الصغيرة، ثم اتجه إلى عمق المقهى.. إلى الكرسي المنفرد الذي يطلّ على الشارع العريض، وضع الفنجان وكأس الماء فوق الطاولة ومضى.. الكرسي الفارغ ظلّ باسطاً يديه على ركبتيه بحزن سرمدي صامت.. وأبو الخير تركه وحيداً فارغاً ينتظر من اعتاد الجلوس عليه، وفوقه مباشرة، كانت لوحة “مرمَم شباك الصيد” تقبع بصمت حزين.. كان أبو الخير ينتظر أن يدخل لؤي ليصبّح عليه، كما اعتاد كلّ يوم.. مسح دمعته، وهمس في أذن المقهى: لقد مات لؤي كيالي.
وُلِدَ لؤي كيالي في مدينة حلب، عام 1934، في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني، لم يعرف حنان الأم، وربّته عمته إثر انفصال أمّه عن أبيه، بدأ الرسم وهو صغير، كعادة الذين تتفتح مواهبهم المبكرة، وقد رسب في امتحان شهادة الكفاءة، وأعاد السنة، ورسب في امتحان الثانوية وأعاد السنة أيضاً، لأن هواية الرسم كانت تستحوذ على كلّ تفكيره، وأقام معرضاً له في ثانوية المأمون، وحين نجح بعد جهد، التحق بكلية الحقوق في دمشق، وأحسّ أنه لا يستطيع العيش في دمشق بسبب ضيق يده، فعاد إلى حلب وتوظف كاتباً في إحدى دوائر الدولة، ولم ينقذه من وضعه إلا بعثة أجرتها وزارة التربية، لدراسة الفنون الجميلة على حسابها، وذلك عام 1956.
رحل لؤي كيالي إلى روما، إلى أكاديمية الفنون الجميلة، ثم انتقل إلى قسم الزخرفة، وتعرّف على الفن الإيطالي، وحصل على شهادة أكاديمية الفنون، وعاد إلى بلاده، وعيّن مدرساً للتربية الفنية في ثانويات دمشق، وبعد ذلك نقل لتدريس الرسم ومبادئ الزخرفة في كلية الفنون الجميلة بدمشق، وما كاد يستقر به الحال حتى بادر إلى إقامة معرضه الأوّل في دمشق عام 1961، فاستقطب اهتمام الأوساط الفنية والثقافية، وقد ضمّ المعرض لوحات تمثل نسوة حالمات ويملكن عيوناً حزينة، وفتية يعانون من البؤس والتشرد.
وفي مطلع عام 1967، أقام الفنان لؤي كيالي معرضاً في صالة المركز الثقافي بدمشق وضمّ ثلاثين لوحة معالجة بالأبيض والأسود، وعبّر فيه عن كفاح الإنسان العربي، وأصيب الفنان بأزمة نفسية حادة، فأتلف على إثرها جميع لوحات المعرض، وانقطع عن الإنتاج، وتوقف عن العمل الوظيفي، وأحيل على التقاعد نتيجة استنفاد الإجازات الصحية، عاد إلى حلب، واعتزل الناس.
بعد هذه العزلة التي استمرت حتى بدايات 1969، عاد لؤي، بعد أن تماثل للشفاء، إلى الساحة الفنية، فشارك في المعارض الجماعية بلوحات قليلة لفتت الأنظار إليها، وأشارت إلى ما يملكه من مستوى فني وطاقة إبداعية بالإضافة إلى تميّز أعماله بمظهر شخصي ورصانة في الأسلوب وجدية في العمل.
راح لؤي يسجّل حركة الناس البسطاء الذين يراهم كلّ يوم (المرأة الحامل والمرضع، بائعو اليانصيب والعلكة والجوارب)، وازدادت لوحاته غنى، لقد بدأ يستعين باللون ليخلق جوّاً تصويرياً حيّاً، وبقي الألم الإنساني رمزاً للتعبير عنده، وبقيت المأساة من دون نهاية.. نجد في كلّ لوحاته حزناً صامتاً، كان يدرك مأساة الآخرين أكثر من الآخرين أنفسهم.
كان الفنان يدهش بألوانه وأشكاله، لأنها تتناول انفعالات الحزن الأكثر قرباً لنا من الفرح، ولهذا السبب لا يستطيع المشاهد أن يقف موقفاً عدائياً لأنها تحرك الأشياء الدفينة فينا.
لقد أراد لؤي أن تكون النهاية، ولم يستطع أن ينجز فعل الموت، وجاءه الموت رمادياً مقنعاً بأبهج احتفالات الحياة، فقد اعتاد أن يأخذ الحبوب المهدئة بعد مرضه، وكان يجبر على أخذها.
أشعل سيجارته، بعد تناول الحبوب المهدئة، وأغفى، وككلّ قصص المآسي، أحرقت السيجارة فراشه وجسده، وبعد شهور انتهت حياة الفنان الذي كان عوداً أخضر فوق صحراء مترامية الأطراف من الرمال، وبقي المقعد فارغاً في زاوية مقهى القصر، وذلك في التاسع من أيلول عام 1978.