دراساتصحيفة البعث

من وحي الذكرى.. البعث ومفهوم الرسالة الخالدة

الدكتور سليم بركات

الوطن العربي من منظور حزب البعث العربي الاشتراكي هو البقعة من الأرض التي يسكنها الشعب العربي، وتمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه، وخليج البصرة، والبحر العربي، وجبال الحبشة، والصحراء الكبرى، والمحيط لأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط، والتي تقدّر مساحتها بنحو 14 مليون كم2، وهي وحدة سياسية اقتصادية لا تتجزأ، ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية فيها أن يستكمل شروط حياته بمعزل عن الآخر، والوطن العربي للعرب، ولهم وحدهم حرية التصرف بشؤونه وثرواته وتوجيه مقدراته، والعربي هو من كانت لغته عربية، وعاش في الأرض العربية، أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بالانتساب إليها، في إطار وحدة روحية ثقافية، لا تفرّق بين أبنائها، وإن وجدت فوارق فتكون عرضية زائلة، تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي.

في صميم هذا الواقع كان شعار البعث (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) وكانت أهدافه، في الوحدة والحرية والاشتراكية، شعاراً رفعه الحزب في أربعينيات القرن المنصرم، في أوج الصعود والحماس القومي، ولقي قبولاً وتجاوباً جماهيرياً كبيراً على صعيد الوطن العربي. ولمّا كان الواقع العربي يستدعي وعي حقيقة هذا الشعار ودلالاته، ولاسيما في هذه المرحلة الكارثية التي يمرّ بها الشعب العربي، فهذا يستدعي التوضيح لأهم المضامين النضالية لهذا الشعار، منذ تأسيس الحزب وحتى يومنا هذا.

فيما يخصّ الجزء الأول من الشعار، وهو الأمة العربية الواحدة، فهو جزء مفهوم، ولا يثير جدلاً، ولا يحتاج الكثير من التفكير في استخراج مضامينه ودلالاته، أما فيما يخصّ الجزء الثاني وهو الرسالة الخالدة، فهو ما يحتاج التوضيح، بسبب غموضه في الأدبيات الثقافية، وكذلك في تفاوت فهم أعضاء الحزب له، فمنهم من يفهمه على أنه منحى تراثي يتضمن دور العرب وفاعليتهم في الحضارة الإنسانية، وهذا لا ينسجم مع التطور الحضاري المتجدّد، ولا مع الحالة العربية الراهنة بالوقوف على الأطلال الحضارية، ومنهم من يعطي هذا المفهوم منحى إنسانياً تشاركياً معاصراً عبر التواصل بين الأمم في الزمان والمكان، وهذا يستوجب مقارنة بين إنجازات العرب الحضارية والتي تميزهم عن الأمم الأخرى في هذا العصر، أيهما أكثر إنجازاً وتقدماً.

واقع العرب اليوم يعكس حاجة الشعب العربي إلى تأكيد وجوده واستقلاله بعيداً عن الاختراق، أكان ذلك بفعل القوى الاستعمارية، ولاسيما الصهيونية الاستيطانية منها المتواجدة على أرضه، أم كان ذلك بفعل الوعي المسيطر عليه إعلامياً بإرادات دولية معادية، نتيجة انحرافات عربية داخلية، تبتعد بالإنسان العربي عن الرابطة القومية العربية، لا بلّ الاستغناء عنها، ونحن لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تخلف العرب وفشلهم لا يتعلق بمنشئهم ولا بخلقتهم وأخلاقهم، بل يتعلق بأسباب داخلية تشتتهم، وبأسباب خارجية طامعة بنهب ثرواتهم، وكلها تمنع نهضتهم، وتكرّس فشلهم، وتهدّد وجودهم، كيف لا والوعي الوطني القومي العربي في حالة من الانحسار، نتيجة تخلفه وتبعيته لمخططات مبرمجة تستهدف وحدة العرب ومقدراتهم، لا بل انتماءهم الوطني القومي، في وقت لا يوجد فيه إنسان على وجه المعمورة بدون وطنية أو قومية.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو: ما مفهوم الرسالة الخالدة الذي تبناه حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا؟ ولاسيما في هذا الواقع العربي المؤلم منذ بداية ما يسمى زوراً وبهتاناً “الربيع العربي”، ليأتي الجواب: إن الرسالة الخالدة تكمن في حراك الجماهير العربية الثوريّ الذي يقلب الواقع رأساً على عقب، وليس إلا لسبب واحد وهو أن الرسالة الخالدة التي يتبناها الحزب شعاراً له ليست جموداً منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة الواحدة وحياتهم وتجاربهم، وهي ليست للمستقبل أيضاً، وإنما هي حالة واقعية تتمثل بحركة الأجيال العربية المتتالية لمعالجة حاضرهم معالجة جديّة جريئة. فالرسالة الخالدة بنت لحظتها، وهي تتطلب من كل عربيّ، أن يتحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياته بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ إنها الصراحة في رؤية العربيّ لعيوبه والاعتراف بها، وتصميمه على أن ينقذ نفسه منها بقواه الذاتية، بعيداً عن القوى المعطلة لحركة هذه الذات العربية، أكانت هذه القوى داخلية، أم كانت خارجية، إنّها الانقلابية بمعنى (إعادة البناء) التي تؤكدها أدبيات الحزب وتاريخه النضالي.

هذه المعاناة التي يحياها عرب اليوم، هي بدء الرسالة الخالدة، ومن خلالها يعرفون من جديد معنى العمل والتضحية، معنى التفكير السليم المستقل، الذي لا يخشى ضغط الغوغاء، يعرفون معنى الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد، ويعرفون أن في هذا الحاضر الذي يبدو قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز الوفيرة الروحية والخلقية والفكرية للعربي السليم وعياً في تبني الرسالة الخالدة. وهذا لا يكون إلا إذا أدرك كل عربي يحمل بذور السلامة والتضحية من أجداده الأبطال، أنه لابد له من أن يستكمل منجزات أجداده، وهذا ما يعنيه مفهوم التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة أنها تنكّر للتراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي الوصول الصحيح إلى القيم الحقيقية الكاملة في النفس العربية، والتي لا يمكن أن تعود من نفسها دون تعب بالصعود إليها، ولاسيما في هذا الوقت الذي تتكاثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل، والكوارث، والنكبات، والتي تتطلب من العرب الأوفياء لعروبتهم، أن يكونوا أكثر شعوراً بأن يوم الخلاص قريب، وأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية اهتزازاً عميقاً وهي تتذكر ذاتها ومهمتها، منتفضة بحيوية وإيمان، مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها الخالدة، ولاسيما في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصاعب، ويكثر فيها المتشائمون، أوقات يسطع فيها نجم المؤمنين الحقيقيين بأمتهم العربية الواحدة، ورسالتها الخالدة، نتيجة الامتزاج الفعلي بينهم وبين مصير أمتهم. وللحقيقة نقول إنّ التجارب المفروضة على الشعب العربي، بما فيها من أتعاب وآلام، ما هي إلا للخروج استكمالاً للرسالة العربية الخالدة، بعد طول قعود وثبات، فالرسالة العربية الخالدة أداة كل انتصار.