ذاكرة حلبية لفنيات عبد الرحمن مؤقت النحتية
حلب – غالية خوجة
ولد النحات التشكيلي والمعلم والمصمّم عبد الرحمن مؤقت في حلب عام 1946 وتوفي يوم الجمعة الماضي، لكنه ترك لمنحوتاته ذاكرة تحكي في ساحات حلب وحمص وغيرها من المدن، ومن تلك الحكايات أنه بدأ الانتباه لموهبته في الرسم والنحت منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره، وتخرّج من دار المعلمين عام 1967 وامتهن التعليم، ودرّس مادة النحت في مركز الفنون التشكيلية عام 1973، وسافر إلى إيطاليا عام 1980 ليكمل دراسته في النحت- أكاديمية روما، ويتخرج عائداً إلى الوطن ليواصل هواجسه الفنية.
وتكمل الحكاية تشعباتها لتستقبل ساحة مطار حلب الدولي القادمين الذين يلفتهم جمال تصميمها وتنفيذها بجمالية صاغتها أفكاره وأنامله، سواء من خلال لوحته المائية الفسيفسائية أو النصب التذكاري البرونزي للمطار، والذي تتشابه فنياته الدلالية مع التمثال البرونزي للفارس الشهيد باسل حافظ الأسد في ساحة باسمه، متألقة بالفروسية والإرادة والجمال، بينما في مكان آخر يطلّ تصميمه باب السلام ليتناغم مع أبواب حلب الشهيرة مثل باب الفرج وباب بانقوسه وباب الجنان وباب الحديد وباب النصر.
كان مؤقت عضو اتحاد التشكيليين السوريين، واتحاد التشكيليين العرب، ولجنة تجميل ساحات المدينة في مجلس مدينة حلب، ونقابة الفنون الجميلة بدمشق، ومن أعماله النحتية الحجرية الملفتة “نصُب الشهداء” في ساحة سعد الله الجابري الأكثر شهرة في الشهباء كونها تقع في قلب المدينة، وتشكّل تقاطع طرق متشعبة، ويبدو نصب الشهداء التذكاري الرمزي المصنوع من الحجر الحلبي الأصفر بين عامي 1984 و1985 شامخاً ببطولته ورفعه للراية المنتصرة بملامحها الإيحائية المتوحدة مع خوذة الجندي، والمحاطة بعدة شخصيات للشهداء في حالات مختلفة لكنها جميعها متجذّرة في الأرض وصاعدة إلى السماء.
والملفت في هذا النصب أنه يجمع فنيات المتخيّل لدى مؤقت مع تجربته الأكاديمية في إيطاليا، إضافة إلى الخطوط والملامح المحلية للوجوه بتأنيثها وتذكيرها والحركة الداخلية الحيوية للألم مع الإصرار والشموخ والانتصار.
تطلّ وجوه وأجساد النصب بمجمل دلالاتها المعنوية وملحمتها الحجرية على مفارق الطرق الحلبية والعابرين والمقيمين، وترى القلعة والمدينة القديمة، وتشاهد ما يحدث في الجميلية والإسماعيلية وشارع بارون، وتتابع المشاهد المتحركة مع الفصول في شارع فيصل وضفاف نهر قويق، وتفرح في الأعياد والمناسبات الفسيفسائية المختلفة، وتحضن آلام الناس المنتشرين في الساحة والجالسين على المقاعد الحجرية والخشبية وهم يتداولون همومهم وآمالهم، وتدمع عيناها مع مآسي الناس الذين احتضنتهم هذه الساحة في الأوقات العصيبة بين الحرب والزلزال، وما تزال المتنفس القريب من الحديقة العامة.
شخصيات نصب الشهداء تتأمل الصور المتلاحقة اليومية لحياة أهل حلب، كما تتأمل المدينة، وكأنها ما زالت الحارس المعلّق والمتجذّر والمحدق قريباً وبعيداً ليقوم بالاستشهاد إلى ما لا نهاية، وهذه هي حالة شهدائنا الأكارم الذين يرفعون علمنا عالياً في كل مكان ليظلّ الوطن واحداً وشامخاً إلى ما لا نهاية.
وتظلّ سيرة النحات مؤقت المتوفى قبل يوم من عيد الشهداء، وفي شهر مريم العذراء، منتشرة بين الأمكنة المزينة بلوحات جدارية ونصب برونزية وحجرية وتصميم وتنفيذ ساحات تطلّ على حلب الشهباء لتواصل الحكايات.