ثقافةصحيفة البعث

“تغريبة القافر”.. حكاية الحب والقهر والخرافة

آصف إبراهيم

تعرفت إلى الرواية العمانية التي لم تنل حظها من الظهور قياساً بالرواية الشامية والمصرية والمغربية، من خلال رواية “سيدات القمر” للروائية اللامعة جوخة الحارثي صاحبة أول جائزة مان بوكر العالمية للرواية العربية في لندن، قرأت بعدها عدداً من الروايات العمانية الأخرى مثل رواية “الطواف حيث الجمر” للكاتبة بدرية الشحي، ليتبلور لديّ من بعدها تصور حول تفاصيل مثيرة من تاريخ عمان الإنساني والاجتماعي، وأنماط حياته، التي تمّ توظيفها بطريقة مختلفة غارقة في خصوصيتها ومحليتها، كون معظم هذه النصوص السردية تلجأ إلى التاريخ لتشكيل فضاء درامي يعيد إلى القارئ العماني تحديداً صورة الواقع الشاق والصعب الذي عاشه آباؤهم وأجدادهم قبل أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من رخاء، لكنني أستطيع القول إن ما أوقد شغفي بالرواية العمانية وزاد من فضولي نحوها أكثر كان رواية “تغريبة القافر” للعماني زهران القاسمي التي حصدت مؤخراً جائزة البوكر للرواية العربية.

وبغضّ النظر عن الجائزة وما يلحق بها من نقد وتشكيك واصطفاف غير موضوعي يرميها بها بعض الساعين إلى الجائزة، فإن تغريبة القاسمي تملك من الميزات السردية الحكائية والفنية ما يجعلها تحتلّ مكانة متقدمة في مسيرة الرواية الحديثة النشأة، فقد شغلت بنفس سردي عميق ومقدرة فائقة على التشكيل الدرامي المتماسك وغزل حكاية تحاكي الواقع التاريخي الذي اشتغل عليه معظم من سبقه مستفيداً من غنى الثقافة الاجتماعية العمانية بالمرويات الشعبية المشبعة بالخرافة والمسلّمات والمعتقدات السائدة، وتوظيفها ضمن سياق حكائي مشوّق ومتقن، ولغة وصفية وحوارية غارقة بالمحكيات المحلية المتداولة، يقول: “ادّعى آخرون أن ساحراً مرّ على قرية الوضيحي وأعجب بفتاة وطلبها للزواج، لكن أهلها رفضوه فقرأ عليهم تعويذة سحب بها الماء وطواه وذهب خارجاً من القرية حتى اختفى بين الجبال، وعندما تبعوه لم يجدوا له أثراً..”. وهكذا يركز زهران القاسمي في نصه على خضوع أهل الريف في ذلك الوقت للخرافة وتسليمهم بحقيقتها للهروب من حقيقة فشلهم وضعف قدرتهم على تطويع الطبيعة وإخضاع مكوناتها لمتطلبات بقائهم ورخاء عيشهم، فكلّ شيء يحدث لديهم يعزونه إلى قوة غيبية خارجة عن إرادتهم ويسخرون ويستخفون من كلّ من يحاول إثبات عكس ذلك، ويدلهم على مكامن الجود في الطبيعة التي تنتظر منهم بذل بعض الجهد للوصول إليه، وهو ماحاول القافر دلهم عليه “باه سالم اسمع الماي يجي من بعيد اسمع كل قطرة تبلل روحي، باه سالم ياباه عطشان، باه بلادك مابلاد، البلاد اللي تاكل اموالك بلاد فاجرة، البلاد بو تستغلك وتاخدك ثمرة وبعدين ترميك فلحة مابلاد ياسالم دور على بلاد غيرها، بلاد بو تنكر جميلك ماتستحق تعيش فيها ساعة..”.

إذا نظرنا بداية إلى العنوان وتشكيل الغلاف نستشفّ أن القافر هو من يقتفي الأثر، وصورة مغزل الخيوط على الغلاف للدلالة على غزل الحكاية لنغوص في السياق السردي الحكائي الذي يأخذ مساراً متصاعداً يقوده راوٍ عليم بكل التفاصيل حتى المونولوجات الداخلية، يبدأ من حادثة غرق مريم بنت حمد في البئر الذي دخلته لتطفئ نار الصداع الذي عانت منه سنوات طويلة ثم اكتشاف الجنين الحيّ في أحشائها وقيام “كاذية” بنت غانم ببقر بطن الجثة واستخراج الجنين حياً منها التي تطلق عليه اسم “سالم” لأنه سلم من الموت والدفن مع جثة والدته، وهو الذي سيصبح شخصية الرواية ومحور السرد بعد اكتشاف قدرته على سماع صوت خرير الماء في باطن الأرض، ومن هنا أخذ اسم القافر الذي يستطيع اقتفاء أثر الماء واستخراجها لري الأرض العطشى بعد جفاف الينابيع في ريف يعتمد في معيشته على الزراعة، فأصبح سالم بن عبدلله “القافر” مطلوباً من قبل سكان القرى المجاورة التي جفت ينابيعها واضطروا لهجر قراهم بحثاً عن الماء والكلأ.

ومن خلال تتبع سيرة حياة القافر يقودنا زهران في تفاصيل حياة الريف العمانية بأنماط سلوكه ومعتقداته ومروياته ومسلماته التي جعلته مشلولاً أمام قدرات الطبيعة وعاجزاً عن مواجهة التحديات التي تفرضها عليه، ليأتي القافر ويحضّهم على تغيير واقعهم السلبي ويعيد الأمل لهم متحدياً سلبياتهم وسخريتهم من إمكانياته.

يوظف الكاتب اللغة المحكية ضمن مقاطع حوارية تضفي حيوية إلى السرد وتفصل بين صوت الراوي الذي يستخدم العربية الفصحى في السرد وصوت الشخصيات التي يطلق لها العنان لتعبّر عن ذاتها ضمن ديالوج غارق في المفردات المحكية، لكن المفهومة من قبل القارئ “استغفري ربش، إن بعض الظن إثم، أنا صح كنت حاقدة على زواجش لكن هذه قسمة ونصيب وهذاك شي وانتهى وقلبي صافي ومأحمل شي عليش ولا على زوجش”.

يقسم الرواية من حيث الشكل إلى أحد عشر فصلاً يسير الروي فيها بخط متسلسل دون أية استطرادات أو تداخل حكائي يشوش القارئ ويجعله يبذل مجهوداً مضاعفاً في اقتفاء أثر الشخصيات وربطها بعضها ببعض، فلكل شخصية دورها في تكوين تغريبة سالم بن عبدالله “القافر” وتنتهي مع انتهاء دورها دون أية عودة إليها، وهذا ما يسهل على القارئ تتبع الأحداث وفهمها والاستمتاع باكتشافه لذلك النوع المشوق من الثقافة الشعبية، ليختم الرواية بنهاية مفتوحة تعطي القارئ حرية تكوينها، عندما يغرق سالم بمياه أحد الأفلاج “الينابيع” التي نجح في اقتفاء أثر الماء فيها، ويبقى أياماً طويلة يبذل جهداً للخروج من جوف الأرض يقتات على الديدان والعوالق والعناكب.

لا يهتمّ زهران القاسمي في رواية “تغريبة القافر” بالشكل بقدر اهتمامه بتكوين محاكاة لعالم تاريخي يمتزج فيه الواقع بالمتخيل ليقدم للقارئ العربي صورة وملخصاً عن حياة أبناء جلدته يضعه فيه أمام واقع مؤلم ينهزم الحب والفكر فيه أمام الخرافة والقنوط.