ثقافةصحيفة البعث

في ذكرى رحيله.. أصدقاء سليمان العيسى يردّون الوفاء بالوفاء

نجوى صليبه

“أحببته قبل أن أتعرّف عليه”.. كثيراً ما سمعت هذه العبارة من أدباء الجيل الأقدم عندما كانت تدور الأحاديث حول الشّاعر سليمان العيسى، وها هو اليوم الدّكتور راتب سكّر يعيديها ويضيف: “أحببته من كلّ قلبي قبل أن أتعرّف عليه، ومن دون واسطة وهو أقل النّاس صلة بالواسطات، وأنا مثل كثيرين كنت أظنّ أنّ لديه شيئاً آخر غير الإبداع كان وراء حضوره وشهرته”.

الرّوح الطّيبة والنّقاء والصّفاء، هي سبب المحبة الكبيرة للعيسى في سورية والوطن العربي، محبّة ما تزال راسخة في القلوب، يدلل عليها الكثير من الأقوال والأفعال، آخرها الرّسائل الصّوتية التي استقبلها سكّر على جواله من أدباء من مصر واليمن والجزائر والأردن الذين أبوا إلّا المشاركة بالنّدوة التي أقيمت بمناسبة الذّكرى العاشرة لرحيل الشّاعر العروبي في المركز الثّقافي العربي بـ”أبو رمانة”. ويتحدّث سكّر عن لقائه الأوّل بالعيسى، يقول: التقيته أوّل مرّة في عام 1984 وكنت موظّفاً في مديرية تربية حماة، وحينها كانت حماة تقيم ندوةً عن أدب الطّفل، يشارك فيها العيسى، فاستقبلته وأعلمته برقم غرفته في الفندق الذي سيقيم فيه مع بقية الضّيوف، فقال: “سليمان العيسى لا ينزل بالفنادق في حماة”.. وما هي إلّا دقائق حتّى تأتي سيارة وينزل منها الطّبيب فيصل الرّكبي، وقال لي: “هذا ضيفي.. انتهى دورك الآن وجاء دوري”. وتساءلت حينها ما العلاقة التي تربط هذا الطّبيب بهذا الشّاعر، ومع الأيّام عرفت القصّة منه ذاته، وأخبرني أنّه والطّبيبان الرّكبي ووهيب غانم كانوا يتردّدون إلى منزل السّبكي الذي كان يقيم فيه المفكّر زكي الأرسوزي مع الطّلاب الذي أتوا من لواء إسكندرون، رافضين قرار الانتداب باستبدال اللغة العربية في المدارس بلغة أخرى، كما عرفت علاقته بأحد أصحاب الفكر العروبي المبكّر في سورية وهو عمر يحيى الفرجي الذي درّسه اللغة العربية في مدارس أنطاكيا عندما نُقل إلى الصّف الرّابع بعد اجتيازه الاختبار وهو في سن الرّابعة عشرة، وحينها قال العيسى للفرجي إنّه شاعر ولديه ديوان، وقرأ قصيدته:

يا توتة الدّار يا عصفورها الشّادي  ردّي إليّ فتوحاتي وأمجادي

عروبتي في دمي لا تيأسي أبداً  غداً أحطم أغلالي وأصفادي

يضيف سكر: لقد كان سليمان العيسى عروبياً بامتياز، وهذه لم يتعلّمها من أساتذته بل من والده ومن وهيب غانم والأرسوزي الذي قدّمه لجمهور النّادي العربي في أنطاكيا.

ومن خلال كتابه “سليمان العيسى.. مترجماً” الذي كتبه وأرسله إلى الدّكتور محمود السّيد، عندما كان وزيراً للتّربية، عرف سكّر الصّداقة القديمة والقوية التي تجمع سليمان العيسى بالدّكتور محمود السّيد رئيس مجمع اللغة العربية. يقول السّيد: كنت أسمع بسليمان العيسى عندما كنت مدرّساً في مرحلة الثّانوية، بعدها كان العيسى الموجّه الأوّل للغة العربية في وزارة التّربية، وتعرّفت عليه عندما أردت التّقديم للدّكتوراه، فسلّمت عليه وتحدّثنا في الأدب والتّربية، وبعد حصولي على الشّروط المطلوبة قال لي وزير التّربية آنذاك إنّه لا يستطيع إعطائي الموافقة إلّا بعد تعهّدي بعدم الذّهاب لاحقاً إلى وزارة التّعليم، تردّدت فقال لي العيسى: وقّع مليون توقيع.. المهمّ أن تكمل دراستك، وبعد إنهائي الدّكتوراه، عملت في مديرية المناهج بالوزارة، وكان العيسى هناك أيضاً، وعملت معه سنة كاملة في المكتب ذاته، وقبيل ذهابي والأستاذ وائل الأتاسي موجّه الرّياضات إلى الجزائر، قال لي: يجب أن نحتفل بكما فهو موجّه الرّياضيات وأنت الموجّه الأوّل للغة العربية، ولسبب ما لم أحضر، وتفاجأت باليوم التّالي وقد نظم قصيدةً، يقول فيها:

ودّع دمشق إلى ذرا الأوراس  واقرأ السّلام لسيّد وأتاسي

ركنان من دنيا المناهج نافسا  في الحلم أحنف في ذكاء إياس

من للفصاحة بعد غيبة سيّد   والجبر بعد غياب وائل آسي

سيناته تبكي على عيناته     والجذر مهموم لفقد الراسي

ويتابع السّيد سيل الذّكريات: بعد الجزائر، انتقلت إلى الكويت، ثمّ عدت إلى وزارة التّربية في عام 1979، ومن ثمّ إلى جامعة دمشق كلية التّربية، وكنت أقود سيارةً قديمةً وضعت كراسيها في التّنجيد، وفي أحد الأيّام مررت بوزارة التّربية وعرّجت على صديقي، فسألني: “الأصيلة موجودة معك؟”.. أجبت: “نعم.. لكن بلا مقاعد”، فأتى بمجموعة من الأوراق القديمة وجلس عليها وأوصلته إلى منزله، وفي اليوم التّالي أتت زوجته الدّكتورة ملكة الأبيض تحمل رسالة منه يقول فيها:

سيارة الدّكتور محمود   تمضي فيها أحلى مواعيدي

أخلاقها يا طيب أخلاقها  مفتوحة الأبواب بالجود

نصف البراغي لم يزل سالماً والنّصف فيها غير مشدود

ركبتها أمس بلا مقعد     أعني بلا همّ وتسهيد

وضعت تحتي كتبي مفرشاً   فالفرش فيها رهن تنجيد

وغاص رأسي تحت شباكها   حتّى كأنّي غير موجود

واعتذر الدّكتور.. لا تعتذر تلك سجايا أهلنا الصّيد

كان حصيراً كلّ ما تحتهم وامتلكوا كلّ المقاليد

ويضيف السّيد: عندما كنت وزيراً للثّقافة، زرت اليمن في عام 2005 واجتمعت مجدداً بالصّديق القديم هناك، فكان لا يفارقنا أبداً، ورأيت بأمّ عيني التّقدير الكبير الذي حظي فيه هناك، لدرجة أنّ مدرّجاً كبيراً باسمه وكذلك العديد من المكتبات، بالإضافة إلى الكتب التي تتناول مسيرة شاعر مرموق وكبير بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، وبعد أن أصبح سليمان العيسى عضواً في مجمع اللغة كنت أجلس إلى جانبه، أحياناً كنّا نقول تعقيباتنا بصوتٍ عالٍ وبشفافية، وأحياناً أخرى كنّا نتهامس فيها، وعندما كنت أوصله إلى منزله، كان طوال الطريق ينشد الشّعر وهو المعروف باختياره النّصوص الجميلةً الزّاخرة بالقيم والمعاني وبالأسلوب الأدبي الجزل والرّفيع، مضيفاً: كنت أتّفق معه في معظم الآراء، وأختلف في بعضها، لكن تبيّن لي لاحقاً أنّه كان على حقّ، وأنّ رأيه مصيب أكثر من رؤيتي.

يطول حديث الذّكريات، لكن الجميل فيه هو مقابلة الوفاء بالوفاء من الأصدقاء والمعارف والمحبّين، يقول الدّكتور نزار بني المرجة: سأتحدّث عن تكريم أنطاكيا لسليمان العيسى في عام 2010، إذ اعتذر عن السّفر وأرسل كلمةً مسجّلةً، ورشّح اسمي للمشاركة مع راتب سكر وعلي عقلة عرسان ومالك صقّور ومريم خير بيك، ولفتني اهتمامهم وكأنّه لم يغادر اللواء، وزرت منزله القديم الذي تسكن فيه بنات شقيقه المتوفى، وحينها طلبت من إحداهنّ أن تذهب معي إلى شجرة التّوت، فقالت لقد ماتت، قلت: لكنّك تعرفين مكانها؟ قالت: نعم.. فاصطحبتني إليه، وأحضرت له حفنة من التّراب وعندما قدّمتها له بكى كثيراً.