مجلة البعث الأسبوعية

من بروكسل إلى أستانا.. ابتزاز أوروبي مقابل ضامن يبحث عن حلول

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

اختار الاتحاد الأوروبي تغييب الدولة السورية عن المؤتمر الذي عقد بمقره في بروكسل حول سورية يومي 14-15 حزيران الجاري، والسبب باختصار أن هذا الراعي لا يريد أن تنكشف حقيقة أهدافه وسياساته اللا أخلاقية تجاه الشعب السوري.

في المقابل، تشخص كل الأنظار باتجاه محادثات آستانا بجولتها العشرين في 21 حزيران الجاري، وسط جملة من التطورات والأحداث الهامة على صعيد المنطقة، والتي كان أبرزها عودة سورية لشغل مقعدها في الجامعة العربية، والتقارب السعودي الإيراني، وفوز رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية، وهو بالتالي ما يؤهل لمشاهدة طروحات جادة حول الانسحاب التركي ضمن فترات زمنية متفق عليها بضمانة روسيا وإيران، والانسحاب من طريق “إم4″، ومحاربة الإرهاب.

خيبات الاتحاد الأوروبي

لم يكن انعقاد القمة العربية في جدة بحضور سورية سوى مسمار آخر في نعش الاتحاد الأوروبي الذي كان شريكاً في الحرب الإرهابية على سورية. هذا المسمار يضاف إلى الخيبات المتتالية للاتحاد الأوروبي وأدواته، وهو ما تم لحظه خلال المؤتمر في مقر الاتحاد في بروكسل الذي تم تخصيصه بشكل أساسي حول سورية، حيث تكررت المواقف ذاتها التي عفى عليها الزمن، وتجاوزتها التطورات التي حققتها سورية طيلة السنوات الاثنتي عشرة الماضية، نتيجة صمودها وتضحيات شعبها وجيشها.

لقد اكتفى منظمو الاجتماع بمشاركة أدواتهم الفاسدة، وكرروا ذات النغمة الشاذة بعدم السماح بعودة اللاجئين، وعدم تقديم مساعدات إنسانية لضحايا الإرهاب والزلزال، وعدم تنفيذ قرارات مجلس الأمن التي تطالب بدعم تمويل مشاريع التعافي المبكر، بهدف استمرار وإطالة معاناة الشعب السوري.

وبدلاً من الإنفتاح، أصر الاتحاد الأوروبي على معاقبة السوريين، والتأكيد على أن سياسته لن تتغير تجاه الدولة السورية، حيث جاء ذلك على لسان الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، الذي جدد التأكيد على تخصيص أكثر من 1.6 مليار دولار لعام 2023 في شكل مساعدات للاجئين في البلدان التي تستضيفهم، وكأن الموضوع يشي بأن هناك متاجرة لا انسانية بملف اللاجئين السوريين، أو بالمعنى الأدق دعم الدول التي تستضيفهم مالياً كي لا يعود أي لاجىء إلى وطنه الأم.

أما بخصوص قرار الجامعة العربية قبول عودة سورية مجدداً، قال بوريل: “هذا ليس الطريق الذي سيختاره الاتحاد الأوروبي”، وكأن هذا المسؤول الأوروبي متأكد أن سورية بحاجة جداً لهذا الاتحاد الفاشل الذي تعصف بأركانه المؤامرات.

كما أنه من غير اللائق دبلوماسياً أن يحمل هذا المسؤول ملف التحريض ضد دولة أخرى- وأي دولة – ذات سيادة، ويؤكد إن الاتحاد لم يكن ليختار مسار “تطبيع” العلاقات مع الدولة السورية، مدعياً أن الظروف غير متاحة لتغيير سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه سورية، لكن السؤال: ما هي الظروف التي يتحدث عنها؟.

لقد انتصرت سورية على الإرهاب، بل أوقفته من الارتداد إلى دول الاتحاد الأوروبي، فهل كان بوريل ينتظر عودتهم؟ وما هي الظروف التي يتحدث عنها؟ إن ما يريده هذا المسؤول الأوروبي مضاعفة جهود الضغط على الشعب السوري، والاستمرار في فرض العقوبات على دمشق، وعدم إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة السورية، وتحويل المؤتمر إلى منصة لإقصاء الدولة السورية على حساب أجزاء وجهات محددة من سورية – أي أدواتهم – على عكس روسيا وإيران الضامنان في آستانا.

من الواضح أن الاتحاد الأوروبي لا يريد الاستماع لنداءات الأردن والعراق ولبنان وتركيا والدول العربية التي طلبت المساعدة في إعادة اللاجئين السوريين، وتخفيف عبء استضافتهم الاقتصادي والاجتماعي. والأهم أن المشاركين في مؤتمر بروكسل تجاهلوا عن قصد تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بشأن ضرورة تقديم تأكيدات واضحة بأن العقوبات الأحادية الجانب لا تنتهك عمليات مساعدة السوريين، وبالتالي إن الموضوعات “غير اللائقة سياسياً” لم تجد مكاناً لها في المؤتمر الذي تحول إلى “تجمعات من أصحاب العقول المتشابهة” الذين يواصلون تسييس العمل الإنساني تحت “الشعارات المنافقة” لمساعدة المحتاجين ورعايتهم، بحسب تصريحات الخارجية الروسية.

آستانا.. ضامنان بحجم العالم

في المقلب الآخر، تنعقد محادثات آستانا بجولتها العشرين وسط جملة من التطورات والأحداث الهامة، والتي تعد مؤشرات ايجابية على المدى القريب والمتوسط، ولعل أولى هذه المؤشرات هو التقارب السعودي الإيراني الذي من شأنه أن ينعكس إيجابياً على الملف السوري، حيث يجمعهما موقف مشترك فيما يتعلق بالانسحاب التركي من سورية. أما الثاني، يتمثل بعودة سورية للجامعة العربية والانفتاح العربي عليها، وهذه السياسات التي تسارعت وتيرة أحداثها مؤخراً، تؤكد إن واشنطن بدأت تتلمس جدية الدول العربية ولاسيما السعودية بالانفتاح على سورية. وفي الشق الثالث، تستشعر الولايات المتحدة الخوف من تمكن روسيا من تحقيق خرق على مستوى العلاقات السورية التركية، وهو ما قد يزيد من تأزم الموقف الأمريكي قبل الانتخابات الرئاسية القادمة.

لذلك فإن إجراء جولة جديدة من اللجنة الرباعية على مستوى نواب الخارجية، التي تضم كل من الدول الضامنة لمسار آستانا يؤكد على نقطتين أساسيتين، أولهما تمسك دول آستانا بهذا المسار، وعدم الثقة بالمسار الدولي الذي تقوده واشنطن عبر الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

قد لا يعول الكثير على مخرجات الجولة العشرين كون الظروف الإقليمية لم تنضج بالكامل، لكن من المؤكد أننا سنشهد بعض الطروحات في مسودة تطبيع العلاقات التي تحدث عنها نائب وزير الخارجية الروسي  ميخائيل بوغدانوف. وما دام هناك رؤية روسية واضحة، فهذا يتطلب تنفيذ النظام التركي التزاماته دون مماطلة، خاصة بعد نجاح رجب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أيار الماضي.

في ظل تأكيدات الخارجية الروسية، ووسط توقعات متفائلة بتحقيق تقدم ملموس، تبقى الانظار نحو ترجمة تلك التصريحات على أرض الواقع، وأهمها  انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، والتوقف عن دعم المجموعات الإرهابية، وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في مناطق خفض التصعيد. ولا نبالغ إذا قلنا أن تركيا اليوم هي بأمس الحاجة لترجمة تلك التصريحات باعتبار أن سورية هي جسر للتواصل الاقتصادي والبشري بين تركيا ولبنان والأردن ودول الخليج.

من هنا، وفي غياب، وتسييس المؤتمرات –مؤتمر بروكسل- وغيرها من المنصات الكاذبة التي تدعي أنها تريد الحل السياسي في سورية، يعتبر مؤتمر آستانا  المسار الأفضل لإحراز المزيد من الخطوات على طريق الحل السياسي للأزمة في سورية. كما أن لهذا المسار رمزية لنجاح الجهد الدبلوماسي الروسي الذي أسهم في توسيع مناطق خفض التصعيد كخطوة على طريق إعادة جميع الأراضي التي سيطرت عليها التنظيمات الإرهابية إلى الدولة السورية، مقابل الأجندة الأمريكية الانفصالية التي تحاول فرضها في المنطقة،  وهو الأمر الذي يجب أن يكون العامل المشترك بين تركيا والدولة السورية لإنهاء هذه الحالة الانفصالية.

أمريكا الخائفة

أمام هذه المعطيات، من الطبيعي أن يظهر الامتعاض الأوروبي الذي تمثل جلياً في مؤتمر بروكسل، وأن تخرج الولايات المتحدة عن المألوف منها في المنطقة، لأن مخرجات القمة العربية التي عقدت في جدة كانت جيدة، وهو لا يناسب الأجندة الأمريكية وحلفائها الذين لا يزالون يدعمون الإرهاب، ويقومون بتجويع الشعب السوري، وسرقة قمحه ونفطه، ومنعه من إعادة إعمار ما دمره إرهابهم. ولعل الدليل الكبير هنا هو زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن إلى السعودية، والتي كان جزء كبير منها مخصص لسورية. صحيح أنه خرجت تصريحات جديدة أثناء الزيارة لجهة ترحيب الوزير الأمريكي بتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران، والتأكيد على الحل السياسي للأزمة في سورية، ووحدة الأراضي السورية، وأهمية دور السعودية في حل الأزمة استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، والمبادرة العربية التي وافق عليها وزراء الخارجية العرب، إلا أن ما ليس جديداً أن الوزير الأمريكي لم يتحدث عن الإجراءات التي ستتخذها الإدارة الأمريكية لمساعدة السعودية في حل الأزمة ومساعدة الشعب السوري للخروج من معاناته الاقتصادية في ظل احتلال القوات الأمريكية للمناطق الأكثر إنتاجاً للغذاء وللطاقة، مع سرقتها المستمرة للنفط السوري، وتشديدها للعقوبات التي طالت معظم مناحي الحياة.

وهذا ما يعني بالضرورة، إن تصريحات بلينكن ليست إلا متاجرة سياسية، وبيع كلام هنا وهناك، لأن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية يتطلب من إدارة بلينكن سحب جميع قواتها من التنف، والقواعد الفرعية غير الشرعية المتواجدة شرق الفرات، ووقف دعمها للميليشيات ومشروعها الانفصالي الذي يتناقض مع وحدة الأراضي السورية التي يتشدق بها المسؤولون الأمريكيون.

إن الأزمة في سورية ذات أبعاد إقليمية ودولية، وأي حديث عن حلها ومعالجة نتائجها لن يتم دون معالجة هذين العاملين الذي سينعكس إيجاباً على المسار الداخلي. ولعل المسار في آستانا، على عكس مؤتمر بروكسل وغيره، هو أفضل الحلول لما لدى الضامنين من أوراق قوة اقتصادية وسياسية تتيح لهما تحقيق الحل السياسي في سورية بعيداً عن الإملاءات الأمريكية. لذلك من الطبيعي جداً أن لا تراهن سورية على تصريحات بلينكن وغيره، وإنما تراهن على عمقها العربي والإقليمي، وعلى التعاون مع كل الجهود الرامية لحل الأزمة في سورية، ولا شروط لها في هذا الإطار إلا أن تتفق تلك الجهود مع ميثاق الأمم المتحدة الذي لا تعرفه الإدارة الأمريكية، وغيرها من رعاة الحروب الارهابية.