“بريكس”.. نظام عالمي جديد وعملة جديدة
ريا خوري
دفع الأسلوب والمنهج، وجميع السياسات الأحادية القائمة على الاستعلاء التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي، دول العالم الكبرى الغنية، خارج تلك المنظومة، إلى التلاقي والتكتل والتحالف فيما بينها بهدف المحافظة على المكتسبات والإنجازات التي حققتها، فكان تجمع “بريكس” الذي يعتبر القوة العالمية الجديدة التي وضعت جملة أهداف استراتيجية عالمية، منها القضاء على هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، ومن ثم إنهاء عصر العقوبات الأمريكية على العديد من دول العالم إلى غير رجعة.
لقد تمكّنت دول “بريكس” من السير بخطوات كبيرة ومتسارعة في سبيل تحجيم القوة الاقتصادية للولايات المتحدة من خلال إنشاء “بنك التنمية الجديد” عام 2015 برأس مال مبدئي قدره مئة مليار دولار، ويقع المقرّ الرئيسي للبنك في شانغهاي في الصين، ويقع المكتب الإقليمي الأول لبنك التنمية الوطني في جوهانسبرغ، جنوب إفريقيا، وتمّ إنشاء المكتب الإقليمي الثاني في عام 2019 في ساو باولو بالبرازيل، تليها مدينة جيفت بالهند وموسكو، روسيا.
هذا البنك ترافق إنشاؤه مع الإعلان عن صندوق احتياطات مالية طارئة، حيث يعتبر البنك والصندوق خطوتين مهمتين لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي، وكان من المقرّر أن يحمل هذا البنك اسم “بنك التنمية لدول بريكس”.
لكن تمت مراجعة هذا القرار كي تتمكن دول أخرى من المشاركة في هذا التجمع برأس المال، عقب الاجتماع لأصدقاء “بريكس” الذي عقد في مدينة كيب تاون عاصمة جنوب إفريقيا، الأسبوع الماضي، بمشاركة وزراء خارجية مجموعة “بريكس”، إضافة إلى عدد كبير من وزراء خارجية عدة دول، هي المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وجمهورية مصر العربية، وكازاخستان.
كما أعلن المجتمعون أن مجموعة “بريكس” تستكشف إمكانية إنشاء عملتها النقدية الخاصة لتجاوز التقيد بالدولار الأمريكي، وطلبت من بنك التنمية الجديد إرشادات وتوجيهات حول كيفية إنشاء عملة مشتركة جديدة لتلك الدول لتسهيل تنمية الاقتصاد العالمي، وحماية أعضاء المجموعة من العقوبات الغربية الأمريكية والأوروبية. وبالفعل توصلت “بريكس” إلى العديد من المقترحات حول إمكانية أن يتمّ تأمين العملة الموحدة الجديدة لتلك الدول ليس بالذهب فقط كرصيد مقابل الأوراق النقدية، ولكن أيضاً من خلال مجموعات أخرى من المنتجات التجارية والصناعية مثل العناصر الأرضية النادرة. وكان لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الرئيس البرازيلي قد صرّح بأن الوقت قد حان لأمريكا اللاتينية ودول مجموعة “البريكس” للابتعاد عن العملة الخضراء أي الدولار الأمريكي لتعزيز التجارة والتبادل الاقتصادي متعدّدة الأطراف، والتنمية الاقتصادية لجنوب الكرة الأرضية.
من الملاحظ أنّ هناك ظروفاً استثنائية تواجهها معظم الحكومات الغربية اليوم وتحديداً في أوروبا، حيث يمكن أن تكون الإجراءات الاستثنائية هي السبيل الوحيد للخروج من الأزمة المتفاقمة.
مما لا شك فيه أن العملة الجديدة لدول مجموعة “البريكس” سوف تشكل ضربة قوية لاقتصاد الولايات المتحدة وللدولار الأمريكي، وللنظام المالي العالمي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، حيث إن دول مجموعة “البريكس” تمثل القوة الاقتصادية الحقيقية والفاعلة في العالم، وتعامل هذه الدول بالعملة الجديدة مع بعضها بعضاً، ومع الدول الأخرى الراغبة في التخلص من هيمنة الولايات المتحدة، وهي كثيرة ومنتشرة في قارات العالم، سوف يجعل التريليونات الأمريكية التي تتمّ طباعتها من غير رصيد ذهبي عديمة القيمة وتتسم بضعف القدرة الشرائية، وسوف تصبح عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الأمريكي، ومن يتعامل بهذه العملة، وتعجّل بانهياره المتوقع.
في المقابل، تتابع الولايات المتحدة ما يجري بصمت، وهي تحاول من خلال الحرب الساخنة في أوكرانيا إضعاف روسيا، كما تسعى إلى محاصرة الصين، وهي تعتقد أن إفشال هاتين الدولتين هو المدخل الوحيد لإنهاء مجموعة دول “البريكس”، وإبقاء الوضع العالمي على ما هو عليه دون تغيير، لكن ليس من السهولة بمكان تحقيق هذا الهدف الكبير، لأنه لا إمكانية لمحاصرة الصين في الشرق الأقصى، بل إن العالم بأجمعه مقبل على مرحلة جديدة مختلفة تماماً عما عرفناه حتى اليوم، وهو تغيير دولي استراتيجي، أي مرحلة الدول المستقلة الحقيقية، حيث سيكون لكل دولة من تلك الدول مكانتها التي تستحقها بعيداً عن الإملاءات الخارجية، وفرض الأجندات الأمريكية والأوروبية بقسوة، وسوف يتمّ توزيع الثروة العالمية بشكل عادل على جميع دول المجموعة، لأن كل دولة ستتعامل بعملتها الوطنية في تعاملاتها في إطار حرية اقتصادية حقيقية، والتي سوف تحققها دول مجموعة “البريكس”.