دراساتصحيفة البعث

تونس لن تكون حارساً لحدود الاتحاد الأوروبي

ريا خوري

نتيجة تفاقم الأزمات والمشكلات التي تعانيها القارة الإفريقية، سعى عدد كبير من الشبان للهجرة غير الشرعية للبحث عن حياة جديدة، وكان أهم معبر إلى الغرب الأوروبي تونس التي تواجه أيضاً صعوبات اقتصادية واجتماعية، ما أذكى المخاوف والقلق الشديد من تداعيات هذه الأزمة الطويلة.

وما يفاقم التوتر في هذه المرحلة أن تصبح المشكلة الأوروبية مع الهجرة غير الشرعية عبئاً إضافياً على تونس، يجعلها ضحية للمساومات والضغوط، وهو ما ترفضه أغلبية الأطراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعتبره تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية، وانتقاصاً من السيادة الوطنية التونسية.

مع تنامي موجات الهجرة غير الشرعية من معظم دول القارة الإفريقية، واتساع نطاقها، أصبحت تونس وجهة لكبار القادة والمسؤولين الأوروبيين، ففي أقل من أسبوعين زارت جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية تونس مرتين، إحداهما مع أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، ومارك روته، رئيس وزراء هولندا. ثم جاء وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، ووزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيسر، واجتمعا بالرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي يتلقى يومياً اتصالات هاتفية مكثفة من المسؤولين الأوروبيين، جميعها تتعلق ببحث تقديم مساعدات مشروطة لتونس، بأن تضبط حدودها، وتمنع موجات الهجرة غير الشرعية، وتقبل بأن تكون ملاذاً لمن يتمّ ترحيلهم من الأراضي الأوروبية، وعلى وجه الخصوص إيطاليا التي تتبع سياسة مشدّدة جداً في هذا الملف المقلق.

مقابل كلّ هذه الإغراءات والتسويفات والضغوط المشبوهة، ليس على لسان الرئيس التونسي قيس سعيّد إلا جملة واحدة، مفادها أنّ بلاده لن تكون حارساً لحدود دول الاتحاد الأوروبي، أو حدود القارة الأوروبية بشكلٍ عام، ويبدو أن تكرار هذا الموقف يؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ هناك ضغوطاً شديدة تمارسها الدول الأوروبية على تونس لتفتح أراضيها لاستقبال المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء، أو من يتمّ ترحيلهم من أوروبا باتجاه تونس. ولتشديد الخناق، بذر بعض المسؤولين الأوروبيين الأوهام أن بوسعهم التدخل بشكلٍ مباشر وسريع لدى صندوق النقد الدولي لتسريع القرض المقدّر بمليار وتسعمائة مليون دولار أمريكي، والذي تتفاوض عليه تونس منذ عدّة أشهر، ولن تتم الموافقة عليه إلا بشروط قاسية لم تجد موافقة حتى الآن.

وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد أثار قضية الهجرة غير الشرعية مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، داعياً إلى تنظيم قمة تجمع العديد من الدول من ضفتي البحر الأبيض المتوسط، فيما تشهد تونس التي يبعد بعض أجزاء الساحل منها أقل من مائة وخمسين كيلومتراً عن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، باستمرار محاولات مهاجرين غير شرعيين معظمهم من دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى للوصول إلى القارة الأوروبية العجوز.

ما تشهده تونس، من تحرك دبلوماسي مكثف حول ملف الهجرة غير الشرعية، يؤكد حالة القلق الأوروبي من هذا الملف، فالدبلوماسية والتحركات السياسية المتواصلة، خصوصاً لدى الدول الكبرى، ليست سوى ابتزاز وتجارة وصفقات. ووفق هذا المنطق، فإن من حق السلطات التونسية أن تجعل من ملف الهجرة غير الشرعية، الذي يزعج الأوروبيين، ورقة تفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي من أجل التوصل إلى تفاهمات عملية حول قضايا تتجاوز ملف المهاجرين غير الشرعيين، حيث تفرض البراغماتية الوطنية التونسية ألا يتمّ حل الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تونس بقبول المساعدات والهبات المشروطة، بل يجب أن تكون الحلول عبر اتفاقيات رسمية بين الطرفين، والتي يمكن أن تدوم وتصمد طويلاً في وجه كل التقلبات والتغيرات المحتملة.

ونتيجة للموقف التونسي، فقد قدّم زعماء من الاتحاد الأوروبي في 11 حزيران الجاري اقتراحاً يقضي بـتعزيز الشراكة مع تونس عبر برنامج يشمل مساعدة مالية طويلة الأمد بقيمة تسعمائة مليون يورو، مدعوم بمساعدة إضافية بقيمة مائة وخمسين مليون يورو يتمّ ضخها في الميزانية بشكل مستعجل وفوري. كما عرض تكتل دول الاتحاد الأوروبي دعماً مالياً بقيمة مليار دولار أمريكي على تونس التي تواجه أزمة لتعزيز اقتصادها، والحدّ من تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر المتوسط.

وتنصّ النقاط الخمس التي اقترحها الاتحاد الأوروبي على زيادة الاستثمار الاقتصادي والمالي في تونس، ولاسيما دعم القطاع الرقمي، واستثمارات كبيرة في تصدير تونس للطاقات المتجدّدة، وتوسيع برنامج تبادل الطلاب “إيراسموس”، وهو برنامج التبادل الطلابي التابع للاتحاد الأوروبي، هدفه تشجيع الجامعات الخاصة والجامعات الحكومية ومؤسسات التعليم العالي على التعاون مع بعضها البعض. ويتعلق أحد مقترحات العاصمة البلجيكية بمكافحة ما أطلق عليه “الأعمال المشينة” للهجرة السرية التي من أجلها سيقدّم الاتحاد الأوروبي لتونس مبلغ مائة مليون يورو هذا العام لمراقبة حدودها، والبحث عن المهاجرين وإنقاذهم، وفق ما أعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، خلال زيارتها الأخيرة لتونس، مرفوقة برئيسي وزراء إيطاليا وهولندا.

وحسب إحصائيات وزارة الداخلية الإيطالية، وصل أكثر من خمسة وأربعين ألف مهاجر غير شرعي إلى إيطاليا منذ بداية العام، أي ما يقرب من أربعة أضعاف العدد الذي سجّل العام الماضي خلال الفترة نفسها.

إن ملف الهجرة غير الشرعية ليس قضية تونسية أو أوروبية فقط، وإنما هو نتاج أزمات متفاقمة، ومشكلات كبيرة تعانيها أمم وشعوب القارة الإفريقية، فالمهاجرون غير الشرعيين هم ضحايا، سواء أكانوا أحياء أم موتى بين أمواج البحر المتوسط، أو لدى شبكات التهريب المجرمة. وحلّ هذه المعضلة الشائكة لا يمكن أن يكون أحادياً عن طريق إملاء القوي على الضعيف، بل يفترض حدوث تفاهم ومقاربة جماعية بين جميع الدول المتشاطئة مع البحر المتوسط، وتتطلّب شجاعة في الاعتراف بالأسباب الرئيسية التي تدفع مئات الآلاف من الشبان إلى ترك مواطنهم، وهذه الأسباب تتحمّل الدول الأوروبية، الاستعمارية سابقاً، جانباً كبيراً منها سياسياً وأخلاقياً، لأنّها مسؤولة عن استنزاف الثروات والطاقات والخيرات الإفريقية، كما ساهمت بتدمير مستقبل شعوبها. كما أن موجات الهجرة غير الشرعية التي تزعج الأوروبيين اليوم هي نتاج ما فعل أسلافهم الاستعماريون سابقاً، وإن إنهاء المشكلة ممكن أن يكون عبر التضامن والتعاون العملي الفعّال بين الشمال والجنوب، وإلا فإنها ستكبر وتتضخم مع الأيام، وتأخذ أبعاداً أخطر مما هي عليه الآن.