مجلة البعث الأسبوعية

إشارات التحول في الجغرافيا السياسية للنفط

البعث الأسبوعية-عناية ناصر

تعمل سياسة النفط العالمية على تطوير تحالفات اقتصادية وسياسية، وهي تشبه تلك التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة. وعليه إن الكتلة البترولية سياسية للغاية، وتبذل جميع الدول المنخرطة فيها محاولات مستمرة لممارسة نفوذها على بعضها البعض، لكن في السنوات الأخيرة، كان هناك اتفاق متزايد على أن هيمنة الولايات المتحدة تتضاءل لدرجة أن النظام الدولي ينتقل من نظام عالمي أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب، بحيث يكون ضعف البترودولار كعملة مؤشراً على أن هذا التحول يحدث الآن.

يشير مصطلح “البترودولار” إلى المركز المهيمن للدولار الأمريكي، إذ يعمل الدولار الأمريكي كعملة احتياطية لتعاملات النفط الدولية. وقد ساهمت حقيقة أن الدول المصدرة للنفط تحصل على تعويض بالدولار الأمريكي عن هذه الصادرات في زيادة قيمة العملة، والطلب عليها في جميع أنحاء العالم.

وبسبب المخاوف المتعددة في السياسة العالمية، كان هناك تغيير كبير في التفضيلات الجيوسياسية للدول المصدرة والمستوردة، لكن هذه الحسابات الجيوسياسية ستشكل خطراً على دولارات النفط على المدى القصير والطويل، وقد ظهر هذا التحول المفاجئ في السياسة النفطية مؤخراً في المقدمة نتيجة حدثين رئيسيين: أولاً، أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى فرض قيود على واردات النفط الروسي. ثانياً، قوبل إصرار الولايات المتحدة على زيادة إنتاج النفط بعد الحرب بمعارضة منظمة أوبك.

هذا التطور ليس مستغرباً بالنظر إلى أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، قد فرض عقوبات جعلت من الصعب على روسيا تصدير الغاز والنفط، لكن دول الشرق الأوسط لم تمتثل لمطالب الدول الغربية، لأنها ستزيد من تعريض عمل أوبك للخطر، كما أن  حكومات الشرق الأوسط لم ترغب في خفض أسعار النفط بشكل مصطنع، لذلك أبقت مستويات الإنتاج منخفضة ولم تزيد من إنتاجها.

في السياسة العالمية، يتوسع نفوذ الصين بشكل كبير بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تقوم الصين ببذل جهود لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي لاستيراد السلع والتغلب على هيمنة البترودولار، وفي هذا الخصوص تجري مناقشات مع العديد من أعضاء أوبك، بما في ذلك السعودية وإيران وفنزويلا، حول إمكانية تسعير مبيعات النفط لبعض هذه الدول باليوان بدلاً من الدولار.

قد يكون لهذا  الأمر تداعيات على سوق الطاقة الدولي، وكذلك على العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وبالمقابل تتحرك منظمة أوبك وحلفاؤها في الاتجاه المعاكس للاستراتيجية الأمريكية الحالية، والمتمثلة في الدعوة إلى انخفاض كبير في أسعار النفط.

يبدو أن السعودية تفكر في بدائل، ففي عام 2022 قالت السعودية إنها تحقق في إمكانية الانخراط في تجارة النفط القائمة على اليوان مع الصين.علاوة على ذلك، توصلت دول آسيوية أخرى، بما في ذلك الهند وباكستان والعراق والإمارات العربية المتحدة إلى اتفاقيات مع الصين وروسيا لدفع ثمن النفط باستخدام الروبل. كما بدأت دول البريكس مناقشات حول تداول النفط مقابل عملتها المشتركة. وفي سياق متصل تقوم العديد من الدول بإجراء أبحاث لتحديد المكاسب والسلبيات المحتملة لتبادل النفط بعملات أخرى.

كانت الدول الأخرى التي كانت تشتري النفط، بما في ذلك الهند والصين، تتجنب أيضاً استخدام الدولار في الوقت الحالي، وتتعامل مع العملات الأخرى بدلاً من ذلك. حتى دول الأوبك أبدت استعدادها لاستخدام اليورو جنباً إلى جنب مع البترودولار.

إن تجاهل وضع البترودولار أمر متهور، بسبب حقيقة أن وضع البترودولار له تداعيات على السياسة الدولية. في مثل هذه الظروف، تحاول السعودية الحفاظ على التوازن في علاقاتها مع كل من الولايات المتحدة والصين، في حين أن البترودولار لن يزول، إلا أنه يواجه بعض المنافسة الشديدة في عام 2023. أي أنه بعد 40 عاماً من الاحتكار الأمريكي للبترودولار، أصبحت الصين الآن تهديداً كبيراً لهيمنة البترودولار.

يمكن القول أن هناك عدد من الإشارات الجديرة بالملاحظة التي تشير إلى تحول محتمل بعيداً عن الدولار نحو العملات الأخرى، خاصة في ضوء التغييرات الواضحة في السياسة، لكن لن يحدث التغيير المفاجئ في العملة الذي قد يحدث لتداول السلع النفطية دفعة واحدة. ونظراً لأن الدول معتادة على القيام بالأعمال التجارية بالدولار، فمن المحتمل ألا تكون حريصة على تغيير الاستراتيجية الاقتصادية بأكملها من أجل حساب عملة جديدة.

على الرغم من المشاكل المستمرة، من المحتمل أن دولاً في الشرق الأوسط، والسعودية على وجه الخصوص، قد لا تكون مهتمة بتغيير العملة، لأنه لن يكون مفيداً لاقتصاداتها. ومع ذلك، فإن إمكانية استخدام عملة مختلفة هو أمر موجود بلا شك، وسيعتمد الكثير على الطريقة التي تنوي بها الصين دمج اليوان في الاقتصاد الدولي، إذ من المتصور أن تلعب السعودية دوراً مهماً في نظام البترودولار أيضاً.

قد يحدث تأثير الدومينو مع بقية أعضاء أوبك في حال بدأت السعودية في تداول النفط مقابل اليوان. ولذلك، فإن هذا الصراع الداخلي يساعد الصين بشكل أكبر على المدى الطويل من خلال تمكينها من زيادة نفوذها في أسواق النفط، وربما جعل اليوان عملة مهمة لتجارة النفط. حتى لو استمر هذا النمط، فلا سبيل إلى أن يكون هناك طلب أقل على الدولار، لأنه طالما هناك فائض من الديون المقومة بالدولار في الاقتصاد العالمي، ستكون هناك حاجة للدولار.

في الختام يمكن الإضافة أن ضعف البترودولار قد يكون له تداعيات استراتيجية مهمة، خاصة فيما يتعلق بالتوزيع الشامل للسلطة في جميع أنحاء العالم، لأن  مكانة دولار الولايات المتحدة كعملة احتياطية في العالم قد أعطته مكانة بارزة في النظام النقدي العالمي، والذي بدوره زود الولايات المتحدة بقوة جيوسياسية. لكن على المدى الطويل، قد لا يجعل إنتاج النفط نظام البترودولار بالياً نتيجة لهذا التحول المفاجئ، إذ من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تحفيز الابتعاد عن الدولار نحو نظام نقدي عالمي أكثر لامركزية.