مجلة البعث الأسبوعية

د.حليم بركات.. طائر الحوم يكفّ عن الطيران

أمينة عباس

بعد مسيرة أدبية وأكاديمية طويلةقضاها في مغتربه الأميركي رحل مؤخراً الروائي وعالم الاجتماع د.حليم بركات الذي وصِف بأنه أفضل من حلل المجتمعات العربية والإنسان العربي وأزمة الهوية والوجود، وكان من أوائل الأكاديميين العرب الذين كتبوا الرواية، وهو الذي ظلت علاقته مع أميركا علاقة رفض:”وكما قتلوا الهنود الحمر مرتين، مرة برصاص بنادقهم ومرة برسم صورة سلبية لهم كي يسوغوا القتل يقتلون العالم الثالث مرتين كل برهة”.

 

الاغتراب عن الوطن

لم يكن كتاباه “الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع” و”غربة الكاتب العربي” ومعظم رواياته إلا نتيجة لما عاشه حليم بركات من اغتراب متعدد في حياته، فغربته الأولى كانت رحيله الذي وصفه بالقسري عن قريته الكفرون إلى بيروت بسبب وفاة والده وهو دون الثامنة من عمره حين قررت والدته الرحيل إلى بيروت بحثاً عن عمل وتأمين الدراسة لأولادها الثلاثة في مدارس لبنان، حيث عاشت العائلة في بيروت من العام 1943 إلى العام 1961 عام مغادرة حليم بركات إلى أميركا لمتابعة تحصيله الأكاديمي، ومن ثم عودته إلى لبنان وانضمامه إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع،ليقرر العودة مجدداً إلى أميركا حيندعته جامعة هارفرد إلى الانضمام إليها كأستاذ زائر بسبب عدم ترقيته في الجامعة الأميركية في بيروتبسبب اهتمامه بالقضية الفلسطينية، حيث أجرى حينذاك أبحاثاً في مخيّمات اللاجئين في الأردن، وكتب كتاباً عن أزمة اللاجئين بعنوان “نهر بلا جسور”وهكذا وجد بركات نفسه منفياً في الولايات المتحدة، بينما كانت رغبته الأولى كما صرح في أحد حواراته العودة إلى سورية حيث جذوره واهتماماته بالقضية القومية والوطنية، مع تأكيده على أن وجوده في المنفى الأميركي زاد من وعيه وتمسّكه بالقضايا العربية ككل من المغرب الأقصى إلى المشرق العربي، وتوسّع في حقل علم الاجتماع فنشر كتابه “المجتمع العربي المعاصر” عام 1984 و”المجتمع العربي في القرن العشرين” عام 2000 وكذلك “الهوية.. أزمة الحداثة والوعي التقليدي”وهذا يعني أن غربته كثّفت من اهتماماته بالمجتمع العربي وقضاياه ككل، وتعمقت صلتُه ومعرفته بالمجتمع العربي وإحساسه بالانتماء إليه بعد هجرته:”كلما ابتعد الأديب عن وطنه جغرافياً ازداد ارتباطُه به”.

 

تجربة إنسانية وجودية

كان حليم بركات يؤمن أن الدراسات الاجتماعية لا يمكن فصلُها عن المجتمع وعن أي علم من العلوم، فعلم الاجتماع يهتم بكل شيء:”أنا إذا أردتُ معرفة مجتمع ما أقرأ الرواية لا علم الاجتماع” لذلك كان يشير دوماً في حواراته إلى ربطه الدائم بين مهمته كعالم اجتماع واهتمامه الخاص بالأدب، فيقول: “أعتبر الأدب مصدراً معرفياً مهماً، فروايات نجيب محفوظ عن القاهرة لا تضاهيها أي دراسات اجتماعية، ومثلها تلك الروايات التي كُتبت في أوربا أثناء الثورة الصناعية.. عندي اهتمام بالأدب، وتحديداً الرواية،ودرستُ علم الاجتماع ليفيدني في كتابة الأدب، وقمتُ بدراسة عن المخيمات الفلسطينية، لكنني شعرتُ بعد صدور الدراسة في كتاب أن شيئاً إنسانياً كان ناقصاً فسجلتُه في رواية” وكان بركات يؤكد أن الرواية ليست موضوعاً أو فكرة أو رسالة، فهي قبل كل شيء تجربة إنسانية وجودية حميمة تهزّ كيان الروائي وتحرّك فيه طاقاته الإبداعية والتأملية والتخيلية، والرواية ليست التجربة الإنسانية بحدّ ذاتها ولذاتها، كما هي ليست الأسلوب الفني فحسب.. إنها رواية العنصرين، أي الأسلوب والتجربة.

 

الإبداع الأدبي والغربة

معظم ما كتبه حليم بركات في مجال الرواية وعلم الاجتماع كتبه باللغة العربية، في الوقت الذي لجأ فيه الكثير من المثقفين العرب إلى الكتابة والتكلّم باللغاتالأجنبية في بلاد الاغتراب حيث يقيمون،وكان بركات يرى أن هذا هو المنفى الذي يجعلهم أقل تأثيراً في المجتمع العربي لأنهم يتكلمون مع الغرب بلغته، ويغتربون عن الشرق أو مجتمعاتهم العربية في آن واحد، لذلك طرح بركات في كثير من كتاباته قضية العلاقة بين الإبداع الأدبي والغربة، محاولاً الاستفادة من تجاربه واهتماماته بنصوص الكتّاب والمفكّرين الآخرين، خاصة أن المجتمع العربي مرّ بظروف معقّدة تأتي في مقدمها هجرات فكرية عربية إلى أوربا وأميركا مؤسسة لنفسها في المجتمعات الجديدة مراكز وحركات وكتابات كانت تذكّره بتلك الهجرات المشابهة في مطلع القرن الماضي، مع تأكيده على أن الكتابة باللغتين الفرنسية أو الإنكليزية نوع من الاغتراب والاقتلاع من الجذور الأولى، ونتيجة لذلك قد تُستخدم الكتابة بالأجنبية من قبل الغرب لمصلحته الخاصة المتناقضة مع المصالح العربية، وهذا لا ينطبق برأيه على كتّاب ومفكرين كثيرين أمثال إدوارد سعيد.

 

المدينة الملونة

اختيرت روايته “طائر الحوم” التي نُشرت عام 1988 ضمن أفضل مئة رواية عربية صدرت في القرن العشرين،وهي سيرة ذاتية حاول أن يعبّـر فيها عن تجربة المنفى في مختلف أبعادها، حيث وجد في المنفى شجرة الوطن تزرع جذورها عميقاً في داخله، فتنقّل على أجنحة المخيّلة بين الكهولة والطفولة وبين واشنطن وقريته الكفرون، وفيها قدم تقريراً عن حياتهِ الشخصية واستعاد من خلالها وهو في أميركا ماضيه ويقول فيها:”هذا هو حليم بركات.. طائر الحوم هو أنا”ورحل بذاكرته وحنينه في روايته إلى مسقط رأسه الكفرون وطفولته فيها عله يروي جفاف روحه في أميركا حيث الغربة والحياة الرتيبة:”هنا الحياة تهدم الإنسان.. الوحدة تأكله من الداخل.. أعيش بعيداً منفياً بلا جذور.. لا.. لا.. النفي لا يعني أنني بلا جذور” لذلك ظلت جذوره قوية في أرض قريته الكفرون وهو الذي بيّن في رواية “المدينة الملونة”:”ما إن اشترينا قطعة أرض في جبل السيدة في الكفرون حتى نبتت لي جذور جديدة” متسائلاً فيها:”لماذا يستمر كل هذا التعلق بالقرية والجبل والحنين الدائم الذي لا ينضب؟” متابعاً سرد سيرته الذاتية في روايته “المدينة الملونة” وهي رواية تاريخية تركز على مدينة بيروت في الخمسينيات، تحدث فيها عن هجرته إلى بيروت بعد رحيل والده وكفاح أمه من أجل تأمين حياة لائقة لأسرتها وتفتّح مداركه ودراسته وصداقاته فيها،مستعيداً كل الأمكنة والأحداث التي مرت عليها، سارداً العديد من قصص الفقراء والطامحين فيها وانطلاقته منها إلى أميركا،وفي حديثه عن الرواية قال:”المخيلة شاءت أن تكون الرواية تاريخ حياتنا اليومية وأسطورة تربطنا بما غاب وبما سيحضر وكأننيأردتُها رحلة سندبادية لاستكشاف بيروت والذات وأسرار العلاقة بينهما.. أنا لست هي، ومن الأكيد أنها ليست أنا” في حين وصف النقاد الرواية بأنها مفكرة عمر ويوميات مرحلة ربط فيها د.حليم بركات بين التجربة الذاتية وتجارب بيروت العامة في الخمسينيات من القرن العشرين.

 

ستة أيام

حاول حليم بركات في العامين 1960 و1961 عندما كتب رواية “ستة أيام” أن يتصور حرباً وقعت بين العرب و(إسرائيل) وهذا ما حدث في العام 1967ومع هذا لم يعتبرها نبوءة بل رؤيا،وعندما وقعت الحرب كان أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروتفأخذ عدداً من تلاميذه وذهب إلى الأردن وعاش مع اللاجئين في المخيم وأجرى لقاءات معهم، وعندما يعود إلى الخيمة كان يسجل ما دار بينهم وكان أن كتب رواية “عودة الطائر إلى البحر”التي جاءت تصويراً واقعياً لما حدث دون أي تغيير.

يُذكر أن حليم بركات ولد في قرية الكفرون عام 1933ونشأ في بيروتونال بكالوريوس وماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت عام1960 ودكتوراه في علم النفس الاجتماعي عام 1966 من جامعة ميشيغانوعمل أستاذاً جامعياً في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة تكساس وزميلاً باحثاً في جامعة هارفرد، وتقاعد حديثاً من جامعة جورجتاون حيث درّس كأستاذ للمجتمع والثقافة لمدة 26 عاماً،ونشر مجموعة قصصية بعنوان “الصمت والمطر” وسبع روايات هي: “القمم الخضراء-ستة أيام-عودة الطائر إلى البحر-الرحيل بين السهم والوتر-طائر الحوم-إنانه والنهر-المدينة الملّونة”وتُرجمت بعض رواياته وقصصه إلى الإنكليزية والفرنسية واليابانية والألمانية والروسية، ومن مؤلفاته عدة كتب في التحليل الاجتماعي والثقافي،منها “المجتمع العربي المعاصر-حرب الخليج.. خطوط في الرمل والزمن-الهوية..أزمة الحداثة والوعي التقليدي-الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع-غربة الكاتب العربي”.. كرَّمه صندوق القدس والمركز الفلسطيني في العاصمة الأميركية واشنطن عام 2017.