دراساتصحيفة البعث

الصين الشعبية قصة مختلفة تماماً

ريا خوري

تصنّفت الولايات المتحدة الأمريكية جمهورية الصين الشعبية على أنها أكبر منافس استراتيجي لها، الأمر الذي يفرض على الصين كسر ما يُسمّى بـ”قانون التاريخ”، وأن تصبح الفائز الأقوى والنهائي في هذه اللعبة الاستراتيجية التي فرضتها الولايات المتحدة.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، لم يكن لدى جميع الدول المنتشرة في العالم، التي قمعتها الولايات المتحدة، القدرة على تجاوز واشنطن من حيث الحجم الاقتصادي الكبير. ولأسباب موضوعية وذاتية عديدة، أصبحت تلك الدول منغلقة على نفسها وعلى العالم الآخر، وواجهت الغرب الأوروبي- الأمريكي ككل، ما أدى إلى العديد من الكبوات والخسائر المادية والمعنوية المتراكمة.

لكن الصين الشعبية قصة مختلفة تماماً كونها دولة لها مقومات خاصة بها، وتمتلك إمكانيات ضخمة جداً، فمن خلال نظامها السياسي القوي وتكوينها الوطني المميّز، يمكن لها أن تبقى هادئة كلما ساءت الأمور في العالم، وحربها التجارية مع الولايات المتحدة التي شنّها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، أكبر مثال على ذلك، إذ كان من الممكن أن تثير تلك الحرب الخوف والرعب لدى الصين، لكن على العكس تماماً فقد كانت معركة الصين مع أمريكا متوازنة، وحتى تجارتها الخارجية الإجمالية نمت بسرعة فائقة ووصلت إلى أحجام أعلى. في تلك المعركة التجارية، كان أكبر رغبة لـ دونالد ترامب تضييق فجوة العجز الأمريكي مع الصين، إلا أنّه في عام 2022 سجّل العجز رقماً قياسياً آخر. والنتيجة، واضحة وصريحة وهي أن الجميع يتحضّر الآن للاعتراف بفشل تلك الحرب التجارية وعجزها عن تحقيق أهدافها.

صحيح أنّ الحصار التكنولوجي الذي تفرضه إدارة ترامب على الصين قد يتسبّب في بعض الاضطراب وعدم الاستقرار، لكنه في المقابل سيحفز الصين على تسريع ابتكاراتها وتقدمها التكنولوجي. والأهم من ذلك كله، وبسبب الاستقرار السياسي والهدوء العملياتي والإداري في الصين، لم تسلك الدولة طريق المواجهة الإستراتيجية، وتواصل الحفاظ بقوة على جميع العلاقات الاقتصادية مع دول العالم، والحفاظ على التبادلات الشعبية الممكنة بينها وبين الولايات المتحدة. كما أن غضب القيادة الصينية من قادة البيت الأبيض لم ينعكس على علاقاتها مع الدول الغربية الأخرى، وبدلاً من ذلك، بذلت قصارى جهدها لضمان انفتاح البلاد أكثر على العالم الخارجي بقوة ونعومة بالتزامن مع صراعها الصريح ضد الولايات المتحدة الأمريكية.

وبفضل الخبرة التاريخية العميقة للحكومة الصينية، وما تملكه من الموارد الغنية في الأفكار والتوجهات، تعاملت القيادة الصينية مع استراتيجية الاحتواء التي تمارسها الولايات المتحدة بطريقة غير مسبوقة وفريدة من نوعها في تاريخ البشرية جمعاء.

لقد احتوت الولايات المتحدة دولاً كثيرة في العالم من قبل، ولا تزال تحتوي دولاً حتى الآن لأسباب عدة معظمها سياسي وعسكري واستراتيجي إلى حدّ كبير، لكن في الملف الصيني، وعلى الرغم من التأكيد بوجود اعتبارات سياسية وعسكرية وأمنية، إلا أنّ احتمالية ازدهار وتطور الاقتصاد الصيني، وقدرته على تجاوز الولايات المتحدة من حيث الحجم الإجمالي لاقتصادها، واردة بقوة هذه الأيام.

إن التنمية الاقتصادية المتسارعة في الصين عملية طبيعية لسعي الشعب الصيني الدؤوب من أجل حياة أفضل، فكيف يمكن إيقافها عندما يسير الناس جميعاً إلى الأمام معاً ويداً بيد. ربما تستطيع الولايات المتحدة احتواء بعض المناطق، ولكن كيف يمكنها احتواء الصين التي تبني الطرق والكهرباء والبنية التحتية المتطورة في جميع المناطق الريفية، وتوفر المأوى والطعام الأفضل والعلاج والتعليم لشعبها، مع المزيد والمزيد من الرفاهية والحياة الرغيدة، فالتحسّن المستمر في حياة نحو مليار ونصف المليار شخص يُعدّ المحرك الأوّل والأساسي لنمو الناتج المحلي الإجمالي عاماً بعد عام، والذي قد يتجاوز في النهاية مثيله في الولايات المتحدة.

وطالما أن الصين لا تُفسد نفسها، فستمضي قُدماً خطوة بخطوة، بقوة وحكمة وتكوّن صداقات في جميع أنحاء العالم. في المقابل، لن تنجح الولايات المتحدة في تضمين الصين في صفوف الدول الفاشلة التي تخضع لاحتوائها، لأن تناقضاتها الداخلية الهائلة والمتراكمة أعمق من أن يتمّ حلها، وشغلها الشاغل هو المواجهة الخارجية بكل أنواعها لمحاربة خصومها، بدلاً من تعزيز قدراتها التنافسية وإعادة تنشيط قدراتها.

في الواقع، يتكامل كفاح الصين ضد الولايات المتحدة الأمريكية إلى حدّ كبير مع تصميمها المتواصل على تطوير نفسها بشكل جيد، وتحقيق أعلى مستويات الإنتاج وتعلّم الكثير من تجربة الاتحاد السوفييتي السابقة، وتحقيق المؤشرات القوية والصارمة للأمن القومي الصيني، من دون الاختباء وراء استراتيجية الاحتواء التي تتبعها الولايات المتحدة ضدها. من هنا وجب الحفاظ على المنطق السياسي والاستراتيجي وإيقاع وضوابط الحكم الداخلي، وأن تستمر قدماً في تحفيز النشاط والحيوية المتأصلة في اقتصاد السوق الاشتراكي، وكذلك حيوية ونشاط المجتمع وإبداعه وابتكاراته المذهلة.