مجلة البعث الأسبوعية

“حواضن” تتحكم بتوزيع الموظفين وتمنع الخبرات من أخذ دورها وتعطل سيرورة العمل الحكومي والإداري المحسوبيات باتت ثقافة يتغنى بها المسؤول والمواطن على حد سواء.. وتغييرها يتطلب جيلاً كاملاً على الأقل!!

“البعث الأسبوعية” – حسن النابلسي

يتجدد الحديث عن الفساد بين الفينة الأخرى، ليصبح الشغل الشاغل لكافة شرائح ومفاصل المجتمع السوري. كما يغدو الحديث عنه بين فترة وأخرى مادة إعلامية دسمة للإعلام الإلكتروني، ولاسيما غير الرسمي، ويظهر خجولاً بعض الشيء في تقارير المسموع والمرئي. ويأتي هذا في وقت لا أحد ينكر أو ينفي فيه تفشي الفساد على مستويات عدة، لكن ليس الكل يجمع على إمكانية القضاء عليه، فأكثر المتفائلين يعتقد أن نسبة الحد منه بالكاد تلامس الـ 50%، وذلك على مدى سنوات طويلة قد تصل إلى عشرين سنة وما فوق، ما يعني الحاجة إلى عمل دؤوب وإرادة لا تكل ولا تمل، إلى جانب نشر ثقافة جديدة تشد من أزر العاملين على هذا الملف. والمواطن هنا ليس بمنأى عن المسؤولية، فهو مدعو للمشاركة بتطهير المؤسسات من الفاسدين عبر تغيير تعامله مع الموظف الحكومي، وعدم إفساح المجال لابتزازه.

خفافيش!

وعالم الفساد متداخل عبر دهاليز خفية يقبع بين أروقتها رموز طالما جيّشت خفافيش تعمل لصالحها دونما حياء، وبشيفرات، منها تقليدية وبسيطة، باتت معروفة للجميع من قبيل “ثمن فنجان قهوة”، و”الدرج فاضي”، لتسيير بعض المعاملات وتسريع إجراءاتها، ومنها أكثر زخماً وأثقل وزناً، وربما أكثر احترافية كـ “غداء عمل” تستخدم لتمرير صفقات وعقود على حساب الصالح العام.

مصادر غير معلنة!

الصعوبة تمثلت حقيقة بأن نحظى بمفصل حكومي يتحدث بصفته، وباسمه الصريح، عن هذا الملف، لاعتبارات تمحور أغلبها حول “الخشية من عتاب الوزير”، وما إلى ذلك، ما اضطرنا للتكتم على مناصب وأسماء محدثينا والجهات التي يعملون بها. وكانت البداية مع مفصل في وزارة معنية بالشأن الاقتصادي، ليؤكد أن الفساد الإداري هو أخطر أنواع الفساد، بل هو المنبع الرئيسي لكافة أنواعه، موضحاً أن الفساد الموجود في وزارته – على سبيل المثال – جاء نتيجة خلافات قائمة بين بعض “كبار” المسؤولين لتحقيق مصالح شخصية وكيفية الاستئثار بها، وذلك من خلال إتباع المؤسسات المهمة والرابحة لهم، دون الخاسرة منها التي تركوها تترنح بترهلها كسفينة تمخر عباب البحر بلا قبطان يرشدها إلى بر الأمان.

الرجل المناسب!

وناشد مصدرنا الحكومة أن تولي اهتماماً كبيراً لمعالجة ملف الفساد لقطع دابره، معتبراً أن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب إحدى أهم خطوات مكافحة الفساد، إضافة إلى الاعتماد على الكوادر والخبرات المؤهلة، خاصة ذوي الشهادات العليا واليد النظيفة المعروفين بنزاهتهم ليأخذوا دورهم في المفاصل الحكومية لاسيما المهمة منها.

حواضن تحميه!

مصدر آخر اعتبر أن للفساد “حواضن تحميه”، وهذه الحواضن هي الأخطر في منظومة الفساد، كونها تتحكم بتوزيع الموظفين على مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب، وتمنع الخبرات المؤهلة من أخذ دورها الحقيقي، وتعطل سيرورة العمل الحكومي والإداري.

ودعا المصدر إلى ضرورة الاعتماد على التوصيف الوظيفي الذي تفتقده عديد الوزارات حتى لا تتراكم الأخطاء وتتطور ويصعب السيطرة عليها، مشيراً إلى وجوب فرض عقوبات رادعة للجم كل من تسول له نفسه ركوب موجة الفساد، مستشهداً بالتجربة الروسية التي تقضي بتغريم كل من يثبت تورطه بحالة رشوة بعشرة أضعاف المبلغ الذي تقاضاه من الراشي وتغيير مكان عمله.

مليارات ضائعة!

يتحدث البعض عن مليارات الليرات السورية التي تضيع على الخزينة العامة سنويا نتيجة الفساد، والبعض الآخر يتحدث عن مليارات أخرى تذهب سدى بغطاء قانوني يضمن عدم المحاسبة لاحقاً، والبعض الآخر لا يستطيع حصر الرقم معتبراً أنه يفوق الخيال محملاً الأجهزة الرقابية مسؤولية عدم المتابعة والمحاسبة، الأمر الذي جعل كرة المليارات تكبر شيئا فشيئا!

وهنا يبين مصدر وزاري تحفظ على ذكر إسمه أنه إذا رجعنا إلى الموازنة العامة، وما يقدر من نفقات وإيرادات لتنفيذ أعمال متعددة في الدولة، نجد أن هناك هدرا كبيرا لا نستطيع تقديره، ناهيك عن الهدر الناتج عن العقود المبرمة مع الخارج، والمغطى قانونيا تحت مسميات “نفقات الإعلان”، و”فض العروض”، و”الوقود”.. إلخ، إضافة إلى نسبة العمولة غير المستهان بها.

وألقى المصدر باللوم على قانون العقود الذي سمح نتيجة ثغراته لإعطاء المجال لإتباع هذه الأساليب ضمن إطار قانوني، داعيا إلى وجوب دراسة القوانين والأنظمة لتلافي مثل هذه الثغرات التي تظهر عند تطبيق القوانين على أرض الواقع، معتبرا أن تعديل القوانين بعد تطبيقها لأكثر من مرة دليل على ضعفها، وهذا ينعكس على الأداء وعدم تحصيل نتائج إيجابية.

ويضيف المصدر بأن استيفاء القوانين لكافة شروط البيئة التي تعمل بها يحد بشكل كبير من الفساد، مشددا على ضرورة الاعتماد على لجان مختصة ومن ذوي الخبرة بصياغة مشاريع القوانين، لا أن تكون حصرا على فئة ضيقة تتعلق بشخص يصدر قرارا بتشكيل لجنة تعمل لصالح جهة معينة وفي حدود ضيقة.

وفي هذا السياق، بيّن مصدر آخر أن إحدى الدراسات الرسمية تؤكد أن نسبة الهدر في الدولة خلال إحدى السنوات وصلت إلى 30%، كما أن قيمة التهرب الضريبي ربما تتجاوز الألف مليار!

ثقافة مضادة  

أصبح الفساد – للأسف – ثقافة لا يتغنى بها المسؤول فحسب، بل والمواطن أيضا، والذي لا يتوانى في غالب الأحيان عن تشجيع الفاسدين بهدف تسيير أعماله عبر ما يدفعه من تحت وفوق الطاولة، ليكون بذلك من أعوان الفساد الذين بحاجة إلى ثقافة مضادة لثقافتهم الفاسدة لاستئصال المرض الذي استشرى في جسم الكثير من المؤسسات ومفاصلها، ما يجعل مهمة مكافحته أشبه بالمستحيل، إذا لم يترافق العمل الحكومي مع نشر ثقافة مضادة للفساد عبر زرع قيم المحافظة على المال العام في روح وسلوك المواطن، وهذا يحتاج إلى برنامج زمني طويل يتم من خلاله القضاء على المحسوبيات التي تحول دون تطور العمل الحكومي، وهنا يشير مصدرنا إلى أن تغيير هذه الثقافة يتطلب جيلا كاملا على الأقل، مع العمل بشكل دؤوب على بناء الخطط وضع الاستراتيجيات على أسس واضحة وشفافة.

لجنة ولكن!

يذكر أنه، في العام 2011، تم تشكيل لجنة لمكافحة الفساد، إلا أن أخبارها انقطعت – ربما – بسبب ظروف الحرب التي استهدفت سورية. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لا يعاد النظر بتفعيل هذه اللجنة التي أوردت في تقرير صادر عنها عام 2011 أن الفساد وباء قديم منتشر في الدول الكبيرة والصغيرة، الغنية والفقيرة، وتُبرَم من أجل مكافحته الاتفاقيات وتُعقد المؤتمرات العربية والدولية، وتسنُّ القوانين الوطنية، وأن شأن الفساد في سـورية كشأن الفساد في الدول النامية الأخرى – أشكالاً وانتشاراً وآثاراً ضارة – مع فروق نسبية.

ومن أجل مكافحة الفساد في سورية صدرت قوانين تُجرِّمُ أفعاله وتُعاقب عليها، كما صدرت قوانين بإحداث أجهزة رقابية، وأُعطي مجلس الشعب – بموجب الدستور – حقَّ تشكيل لجان للتحقيق في الأمور التي يراها (المجلس) في معرض ممارسته اختصاصاته، واعتبر – الدستور- مجالس الوحدات الإدارية المحلية مجالس شعب محلية يحدِّد القانون اختصاصاتها.

وأضاف تقرير اللجنة وقتها أنه ورغم وجود الإرادة السياسية لمكافحة الفساد، وبذل الجهود الحثيثة بهذا الشأن، لم تَرْقَ النتائج إلى المستوى المطلوب – وهو ما لا خلاف عليه – وظلَّ الفساد محلَّ شكوى المواطنين واهتمام الباحثين والهمَّ المؤرِّق للقيادة السياسية، فقد أصاب الفساد بعضاً من شاغلي الوظائف العامة المعيّنين أو المنتخبين وبعض أعضاء المنظمات والنقابات والقطاعات الاقتصادية.

مقترحات!

وتضمن التقرير جملة اقتراحات بشأن آليات مكافحة الفساد يتصدرها إصدار قانون متطور بإحداث هيئة، أو مجلس أعلى، لمكافحة الفساد، يحلُّ محلَّ الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ويمارس اختصاصاتها، بما فيها التحقيق في قضايا الكسب غير المشروع، كما تحقِّق في قضايا الفساد التي تنسب إلى أصحاب المناصب والموظفين العامين، ومن في حكمهم، وهذا يستتبع سحب اختصاص التحقيق والتفتيش من الجهاز المركزي للرقابة المالية.

ويحسُن – بحسب التقرير – أن يلحظ التشريع المقترح إحداث معهد متخصّص للتدريب والتأهيل في مجال مكافحة الفساد، يتبع الهيئة الجديدة، ويلتحق به من يتمّ تعيينه وقبل مباشرته العمل “على غرار ما هو قائمٌ في المعهد القضائي”.

وتضمنت المقترحات إصدار قانون جديد يجمع جرائم الفساد، ويشدد عقوباتها، ويُنصُّ فيه على عدم سقوط قضايا الفساد بالتقادم، وتخصيص نيابة عامة، وقضاة تحقيق، وإحالة، ومحاكم، من القضاء العادي، للنظر في قضايا الفساد، ضماناً للتخصص وسرعة الفصل في الدعاوى، وإحداث ضابطة عدليّة متخصّصة بقضايا الفساد، وتشجيع المواطنين على التعاون مع السلطات المختصة للإبلاغ والكشف عن قضايا الفساد، وحثّ وتحفيز الموظفين للتعاون في كشف الفساد أيضاً.

كما اقترح التقرير حماية الشهود والمبلِّغين عن قضايا الفساد، وحماية أقربائهم، وكذلك العاملين في مجال مكافحة الفساد، وتحفيز الفاسدين على ردِّ المال الناجم عن الفساد، إضافة إلى استرداد الأموال الناجمة عن الفساد بالتعاون مع المنظمات الدولية – عند الاقتضاء – وتشكيل لجنة لوضع الآليات القانونية لذلك، على أن يكون تفعيل الاقتراحات الأربعة الأخيرة، بإصدار صكوك تُنظِّم مواضيعها.

ومن الاقتراحات أيضاً وضع استراتيجيّة شاملة للوقاية من الفساد ومكافحته، مع جدول زمني تقريبي، ورسم السياسات الكفيلة بمعالجة مشكلة البطالة وخفض معدلاتها، والنظر في تصديق كل من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، واتفاقية إحداث الأكاديمية الدولية للتدريب المهني على مكافحة الفساد.

وخلصت اللجنة في تقريرها إلى أن السياسة الفعّالة لمكافحة الفساد تقوم على معالجة أسبابه، بدايةً، ثمّ العمل على تعزيز النزاهة والشفافية، والمشاركة المجتمعية، والإدارة السليمة للشأن العام، وتسريع المساءلة والمحاسبة والعمل على استرداد الأموال الناجمة عن الفساد، وإنّ إيمان المواطنين بجديّة الحكومة في مكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين والمفسدين، ينتقل بهم من السلبية إلى مؤازرة الحكومة في إجراءاتها بمكافحة الفساد، الأمر الذي يدفع خطط الحكومة قُدُماً ويحقّق ردع ضِعاف النفوس.

لعلّ أهم ما ورد في تقرير اللجنة أنه لمّا كانت خطط مكافحة الفساد لا يمكن أن تُؤتي أُكُلَها في وقتٍ قصير أيّاً كانت الخطط دقيقةً، والإجراءات فاعلةً وسريعةً، فإنّ اللجنة تقترح أن يُشرح للمواطنين، من خلال وسائل الإعلام، أنّ طريق الإصلاح ليس قصيراً، وأنّ الإجراءات ليست سحريّةً لكن الإرادة جادّةٌ، والعمل دؤوبٌ، وستظهر آثاره تباعاً.

أخيراً.. هذا التقرير الذي صدر منذ ما يزد عن عقد وضع ما يشبه خارطة طريق..  لكن، وللأسف، لم تنفذ!