دراساتصحيفة البعث

الجزائر ومحور الشرق.. استقطاب أم توازن في العلاقات

د.معن منيف سليمان

بادرت الجزائر مؤخّراً إلى خطوات لتعزيز العلاقات مع محور الشرق مثل الصين وروسيا، ما أوحى بتغيير دفّة سياستها الخارجية نحو هذا المحور حتّى إن مراقبين رأوا أن توجهات سياسية معادية لأوروبا والولايات المتحدة هي التي تدفع الجزائر إلى الدوران باتجاه محور الشرق، لا سيّما مع رغبة الجزائر بالانضمام إلى مجموعة “بريكس”، التي تنظر إليها موسكو – بكين على أنها واحدة من ركائز “النظام العالمي الجديد” الذي تتطلّعان إلى بنائه بالتحالف مع هذا المحور.
بدأت الجزائر وموسكو في تطوير العلاقات الاقتصادية والعسكرية والأمنية بينهما في ستينيات القرن الماضي، حين أصبحت روسيا المُورّد الرئيس للأسلحة إلى الجزائر، في وقت سعت فيه الدولة المستقلة حديثاً إلى بناء جيشها، ولا تزال هذه العلاقة الدفاعية الوثيقة مستمرّة حتى يومنا هذا.
وبحسب تقرير معهد “استوكهولم” للأبحاث حول السلام “سيبري”، الصادر في آذار 2023، تعدّ الجزائر ثالث مستورد عالمي للسلاح الروسي بعد الهند والصين، فيما ‏تعدّ موسكو أول مموّل للجيش الجزائري بالأسلحة، والأنظمة الحربية بنسبة تفوق ‏‏50 بالمئة.‏
ويعدّ البلدان من أعضاء تحالف “أوبك +” الذي انطلقت لبنته الأولى في اجتماع أيلول 2016 في الجزائر العاصمة، وضمّ حينها أعضاء منظمة الدول المصدّرة للنفط “أوبك” ومنتجين من خارجها على رأسهم موسكو.
وبناءً على ذلك فإن واقع العلاقات الروسية – الجزائرية محكوم بعدّة أبعاد مرتبطة بميراث تاريخي، وشبكة حسابات جيوسياسية، طاقوية وعسكرية، وبالتالي هناك مصالح مشتركة بين الجزائر وروسيا تزيد من عمق التحالف الاستراتيجي.
من جهةٍ ثانية، تتطلّع الجزائر إلى استقطاب استثمارات صينية في قطاع الطاقة واستغلال المناجم والصناعات التحويلية، وتسريع تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية الحيوية، ومنها إنجاز ميناء الجزائر في منطقة الحمدانية بشرشال (120 كيلومتراً غربيّ العاصمة الجزائرية)، واستغلال منجم الحديد في غار جبيلات في ولاية تندوف جنوب غربيّ الجزائر الذي تولته ثلاث شركات صينية لاستخراج خام الحديد بأكثر من ملياري دولار.
ويشكّل جانب من الاستثمارات الصينية في الجزائر خروجاً عن القاعدة التي حرصت عليها البلاد منذ ثمانينات القرن الماضي على الالتزام بها، وهي الامتناع عن تمويل المشاريع التنموية عن طريق الديون التي أثقلت كاهل الجزائر لعقود طويلة سابقة. ولكنها تعود إليها مجدّداً، على أمل أن تكون الاختيارات الاستثمارية مثمرة هذه المرّة، بحيث تتمكّن من تسديد ديونها بنفسها.
وترتبط الجزائر والصين باتفاقات من قبيل “الخطة الخماسية الثانية للشراكة الإستراتيجية 2022 – 2026″، و”الخطّة التنفيذية للبناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق” الموقعة عام 2018، و”خطّة التعاون في المجالات الرئيسة” التي تمتد حتى عام 2024.
وأعلنت الجزائر في شباط 2022 عن نيتها الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، في بادرة لقيت ترحيباً كبيراً من وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف.

ويعتزّ المسؤولون الجزائريون بمتانة العلاقة مع موسكو، ويشيدون باستمرارها التي تجمع البلدين على قائمة من البرامج والتعاون المشترك في مختلف جوانب التنمية المستدامة.
ولطالما عبّرت الجزائر عن عدم ثقتها في الغرب من خلال مواقفها الرافضة لتوجهاتهم الاستراتيجية، فقد عارضت احتلال العراق والتدخّل العسكري في ليبيا ومالي والساحل الإفريقي، كما رفضت إدانة روسيا في عمليتها الخاصة في أوكرانيا، ودعمت الصين على طول الخط في صراع تايوان.
وبناءً على ذلك، يقول مراقبون: إن هناك توجهات سياسية معادية لأوروبا والولايات المتحدة هي التي تدفع الجزائر إلى الدوران في دائرة بكين- موسكو، ولا سيّما مع رغبة الجزائر بالانضمام إلى مجموعة “بريكس”.

ولم يخفِ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال زيارته إلى موسكو مؤخراً رغبة بلاده الصادقة في الحصول على عضوية مجموعة “بريكس”، وعبّر عن ذلك بالقول: “الجزائر تريد التعجيل في دخول منظمة “بريكس” والخروج من سيطرة الدولار واليورو، كون ذلك فيه فائدة كبيرة لاقتصادنا”.
ومن شأن هذا أن يزيد من مخاوف شركاء الجزائر الأوروبيين، من أن الجزائر لا تعطي قيم الشراكة حقّها عندما تميل إلى الطرف الآخر، وتشجعه ضمنياً على أن يتحوّل إلى “تهديد” لمصالح الغرب.
ويذهب بعضهم الآخر إلى أبعد من ذلك فيرى أن الجزائر تضع نفسها بهذه الخطوة نحو معسكر الشرق في مرمى التوتر مع الولايات المتحدة التي لم تخفِ قلقها في السابق من اتجاه الرئيس تبون نحو روسيا على الرغم من التحذيرات الأمريكية. فيما تتعالى أصوات أمريكية لردع الجزائر، وفرض عقوبات عليها لكبح تقاربها مع موسكو، حيث وقّع 27 نائباً بالكونغرس الأمريكي على عريضة طالبت وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، بفرض عقوبات على الجزائر بسبب علاقاتها الوطيدة مع موسكو، وذلك استناداً إلى قانون “كاتسا” الذي أقرّه مجلس الشيوخ الأمريكي في آب 2017. ويشمل القانون ثلاث دول تعدّها واشنطن “أعداء” وهي روسيا وإيران وكوريا الديمقراطية الشعبية، إذ تُفرَض العقوبات عليها وعلى من يتعاون معها عسكرياً.
في الواقع، إن الجزائر معروفة منذ استقلالها عام 1962 بعلاقاتها الجيدة مع ما كان يُعرف بالمعسكر الشرقي، وإن الظرف الدولي الراهن جعل تلك الخطوات توحي بأنه حسم خياراته الخارجية بشأن تنافس الأقطاب، حيث بات يتشكّل في المنطقة والعالم تحالف جديد يضم روسيا والصين، إضافة لإيران يعمل على مواجهة النفوذ الغربي، وهو من أبرز نتائج الحرب الروسية – الأوكرانية التي اندلعت في شباط 2021.
إنّ اهتمام الجزائر بعلاقاتها مع الصين وروسيا لا يُعدّ تطوراً جديداً، إذ أن السياسة الخارجية الحالية هي امتداد لما كانت عليه في سنوات سابقة، وهي محاولة الموازنة في العلاقات الاستراتيجية مع المعسكر الشرقي سابقاً من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى؛ ولذلك فالقول: إن الجزائر تفضّل طرفاً على آخر في هذه المرحلة هو خطأ، فهي تحاول أن تنوّع في شراكاتها وتعاونها الاستراتيجي حتّى التعاون العادي مع عدد من الدول سواء أوروبا والولايات المتحدة أو الصين وروسيا.
والملاحظ في الأشهر الأخيرة أن الجزائر تمتلك ورقة رابحة في ملف الطاقة تسمح لها بممارسة الدبلوماسية بحرية، وإيجاد موقع لها بين النوادي الكبرى مثل مجموعة “البريكس” إبان الحرب في أوكرانيا، حيث أصبحت دول الغرب بحاجة إلى إمدادات الغاز الطبيعي بصورة إضافية في ظلّ عقوبات غربية مشدّدة على قطاع الطاقة الروسي.
كذلك فإن أوروبا كأول مستهلك للغاز الطبيعي الجزائري يمكن أن تكون مدافعاً فعّالاً عن الجزائر في واشنطن إذا تمكنت من جعل الإدارة الأمريكية تفهم أن مصلحة الولايات المتحدة في “أوروبا آمنة” تخدمها على أفضل وجه أن تكون الجزائر ودّية مع واشنطن، ولكنها مستقلّة وتسعى فقط للتقدّم بنفسها عبر علاقات الاحترام المتبادل مع الشركاء العمليين.
وهكذا يبدو أن الجزائر أمام حراك سياسي واقتصادي وعسكري جديد، الهدف منه استعادة الجزائر لمكانتها الإقليمية والدولية، وتكريس زعامتها في الساحات العربية والإفريقية والدولية، وبدأ هذا الحراك النشط والفاعل بدعم القضية الفلسطينية، واستضافة قياداتها في العاصمة لتحقيق المصالحة ولمّ الشمل، وترسّخ مبدأ طرد “إسرائيل” من عضوية الاتحاد الإفريقي، وجعل القضية الفلسطينية تحتل قمّة جدول أعمال القمة العربية، والأهم من ذلك قيادة الجهود العربية لإعادة سورية إلى الجامعة العربية.
إن انفتاح الجزائر على محور الشرق يعكس قراءة قيادتها الحكيمة للتطورات العالمية المستقبلية المتسارعة، حيث يتراجع النفوذ الغربي، لمصلحة عالم متعدّد الأقطاب بزعامة الثنائي الروسي الصيني وعنوانه الأبرز إقامة نظام عالمي اقتصادي مالي جديد على أنقاض النظام الأمريكي، ونواته الأقوى منظومة “بريكس” والبديل لمجموعة “الدول السبع”، وحلف “الناتو”، وستكون ضربتها القاضية، أي منظومة “بريكس” إصدار عملة عالمية جديدة بديلاً للدولار وإنهاء سيطرته.