ثقافةصحيفة البعث

في نظريات الرّواية ومدحها ونقدها..

نجوى صليبه

يمهّد الكاتب الفرنسي “بيير شارتييه” لدراسته “مدخل إلى النّظريات الكبرى في الرّواية” التي ترجمها إلى العربية عدنان محمد، بالقول: إنّها لن تتوّقف عند تمييزات غير مثبتة تاريخياً بين القصّة القصيرة والحكاية والرّواية، وإنّ مفهوم نظرية الرّواية المقصود هنا هو منظومة من الآراء المتشكّلة حول الجنس الرّوائي، مبيناً أنه “تضافرت في هذه الدّراسة ثلاث وجهات نظر متكاملة: مجموعة من النّقاشات والسّجالات حول (الجنس) تسعى إلى تعريفه تاريخياً، وإلى الإحاطة به من الخارج المحكي، ولا سيّما في عصور التّكوّن والاعتراض والرّفض، وهناك تحليل لأهم النّظريات المرسخة لمسألة المسرود أو الرّواية التي أنتجها فلاسفة وكتّاب أو نقّاد ثاروا على هذا المعتقد، وأخيراً هناك قراءة لنظرية الرّواية التي كانت قيد الإنجاز في بعض النّصوص الرّوائية الكبرى”.
ومنذ البداية يبرّر “شارتييه” للقارئ مروره مرور الكرّام عند أسماء بعض الرّوائيين، معللاً بأنّ “بعض كبار الرّوائيين ذكروا ببساطة، وذلك لأنّهم لم يصوغوا نظرية للرّواية بالمعنى الدّقيق للكلمة، ولكي نأخذ في الحسبان الأهمية أو التّأثير التّاريخيين لبعض الرّوائيين (بلزاك، فلوبير، بروست) فإنّ الشّرح الرّئيس المخصص لهؤلاء يتمتّع ببعض الحرية في التّسلسل الزّمني”.

وفي الفصل الأوّل وتحت عنوان: “الفنون الأدبية ـ أبوّة أرسطو المتناقضة”

يبيّن “شارتييه” كيف سارت معظم الفنون الشّعرية في الغرب على خطا أرسطو، ولم يوجد في هذا المجال نصّ نظري قُرئ وترجم واستنطق حتّى التّضاد في المعنى مثل كتاب “فنّ الشّعر” الذي يرى أنّ هناك ثلاثة أجناس كبرى نبيلة أو رفيعة بوزنها وموضوعها ونبرتها وهي “المأساة والملحمة والملهاة” إلى قوله: “أخذ المنظّرون الكلاسيكيون، المعجبون جدّاً بأرسطو في الحسبان بعض الأجناس الجديدة التي تنتمي إلى التّراث الوطني، كالقصيدة البطولية الرّوائية والرّواية الرّعوية والرّعوية المأساوية، لكنّهم يجرّدونها من أي ميزةٍ بارزةٍ”، موضّحاً: إنه يذكر “بوالو” مصطلح الرّواية أو يذكر باشمئزاز أبطاله “المعسولين” في بيت شعري، بوصفه جنساً قبيحاً، فهو يرى أنّ الرّواية مثلها مثل المسرح المعاصر، مليئة بقصص الحبّ الممجوجة، لكن يجب التّغاضي عن “تفاهتها”.
هل الرّواية هي جنس فوق الأجناس؟ سؤال يطرحه المؤلّف وبعد عرض طويل يدعّمه بالأمثلة يقول: إن عصر انتصار الرّواية ينزع إلى تنظيرها بوصفها جنساً يتفوّق على الأجناس الأخرى كلّها، وإذ تقع الرّواية في الوقت نفسه قبل المحاكاة وبعدها، فهي ضدّ أرسطية وضدّ الجنس الأرسطي بامتياز.. لنستعيد، ونحن نمنح الرّواية دلالة مختلفة بعض الشّيء، عبارة (مارت روبير) في حقّها: “وأخيراً وجدت ابن أعمالها تجريبية تماماً، لكن منذ ولادتها غير المحتملة، ورغماً عن أرسطو، هي متّسمة بميسم أبوّته النّظري والمتناقض”.

العلاقة بين الأسطورة والملحمة والرّواية

ويوضّح “شارتييه” في الفصل الّثاني الفرق والعلاقة بين الأسطورة والملحمة والرّواية، بادئاً إيّاه بوجهة نظر “ب، غريمال” الذي تعرّف إلى ملامح الرّواية المدوّنة في الأجناس الأخرى جميعاً، قبل وقت طويل ممّا سمّي “الرّواية اليونانية”، يقول: إنّه يراها في كلّ مكان ليس في ثيمات الشّعر الإسكندري فحسب بل أكثر من ذلك بكثير، في “الأوديسة” وعند “هيرودوت” المؤرّخ الذي جمع “كثيراً من الأخبار الرّوائية” وفي كواليس الملهاة وكواليس المأساة”، إلى قوله: “خلال عقود عدّة”، حين حاول النّقد أن يميّز بين الملحمة والرّواية، أخذ الملاحم الهوميرية في الحسبان بصورةٍ خاصّةٍ فهي الوحيدة المعروفة المقدّرة على طول العصور، ونقلها إلى روايات أوروبية أحدث منها بكثير، ولم تؤخذ في الحسبان إلّا بصورة ثانوية السّلسلة التي رأت في العصر الوسيط بعد نشيد المآثر، ظهور مصطلح “رواية”، حيث اشتقّت ثيمات كثيرة في الواقع من المادة الملحمية، مضيفاً: “خلال ما يقارب قرناً من الزّمن، بين عامي 1170و1250، تعايش كلّ من نشيد المآثر والرّواية متمايزين بوساطة الوظيفة الاجتماعية التي كانا يؤدّيانها”.

“ولادة مضاعفة للرّواية”

هو عنوان فرعي جاذب يختاره المؤلّف ويتبعه بسؤال مهم هو “كيف يمكن أن تؤخذ ولادة الرّواية الحديثة في الحسبان؟”. ويبيّن: “يلاحظ (هوييت) أنّ انهيار الإمبراطورية في الغرب ترافق بانهيار مملكة الآداب.. في السّابق كتبت روايات من أجل المتعة، فكتبت آنذاك قصص خرافية، لأنّه لم يكن بالإمكان كتابة قصص حقيقية، بسبب عدم معرفة الحقيقة”.
ومن تعريف “هوييت” للرّواية، ينتقل “شارتييه” إلى قبول “لانغليه” لأنماطها جميعاً، يقول: “ولا يعترف لا بجدارة المطبوعات ولا بعظمة الأشخاص ولا بنبل الطّباع بوصفها معياراً حصرياً للجنس الرّوائي، فإنّه يطالب بجميع أنواع الجمهور، من الطّفولة إلى الشّيخوخة، ويقترح لكلّ سنّ قراءات مناسبة”.

من الرّومانسية إلى الواقعية

وفي الفصل الخامس، ينتقل المؤلّف مع الرّواية من الرّومانسية إلى الواقعية، ويجول في أصول ومرجعيات هذه المدرسة ومبادئها، مستشهداً بما كتبه “دورانتي” في العدد الثّاني من مجلة “رياليسم”: “لقد تبيّن بوضوح شديد أنّ الواقعية تحظر التّاريخ في التّصوير وفي الرّواية وفي المسرح، من أجل ألّا يوجد أي كذب، ولئلا يتمكّن الفنّان من استعارة ذكائه من الآخرين”.
وتحت عنوان “صعود لا يقاوم”، يتحدّث المؤلّف ويستشهد بما كتب حول انتصار الرّواية، يقول: “يعدّ “م. أيكنايان” أنّه وفي منحن صاعد مستمر قد نمت- منذ عام 1800 وحتّى عام 1850- هيبة الرّواية لدى الجمهور والنّقاد المتّفقين على توسّع حقلها وتوطّد جدّية موضوعاتها، وقد كتب “شاتووبريان” عام 1805 عن النّجاح الإعجازي للرّوايات، والذي عزاه إلى حبّ “القراءات الهشّة” التي تريح “تنديدات الفلسفة”، لكنّه لم يصنّف على ما يبدو لا رواية “رينيه” ولا “أتالا” ضمن هذه القراءات، ومن ناحية النّقد أعلن “ديسو” في مجلة “ديبا” عام 1817 إنّ كثرة الرّوايات السّيئة هي التي أضرّت بالجيّدة”.
وبموضوعية وحيادية، ينوّه “شارتييه” بأنّ “بلزاك” – وعلى خلاف كثيرين – وجد في “والتر سكوت” مبدع شخصيات روائية، يقول: “لقد اختلط مديحه مع مديح الرّواية وإعادة تأهيلها، فبفضل “سكوت” بات القارئ قادراً على إعادة اكتشاف الرّواية اليونانية وقصائد المآثر القروسطية”.
ومن مديح “والتر” إلى مديح نظرية النّمط، المصطلح الذي استخدمه “بلزاك” عن معرفة تامّة بمعناه بحسب ما يذكر المؤلّف: “في مقدمة رواية “قضية مظلمة”، النّمط هو شخصية تلخّص في نفسها الملامح المميّزة لكلّ الشّخصيات التي تشبهها نوعاً ما، إنّه نموذجها في الجنس، كذلك فإنّنا نجد كثيراً من نقاط الالتقاء بين هذا النّمط وشخصيات الزّمن الحاضر، لكن أن يكون إحدى هذه الشّخصيات، فتلك إدانة للمؤلّف، لأنّ ممثّله لن يعود إبداعاً”.
وبعد خوضه في الرّواية الواقعية والتّبادلات في العبارات والأدلّة والنّكران – إن صحّ التّعبير – يقول “شارتييه”: “انتظم بعض الرّوائيين أوّل مرّة في مدرسة مستقلة، مع المطالبة بمبادئهم وقوانينهم الجمالية، فتكلموا وبدؤوا تحت راية الواقعية، وبارتباط مع رسّامين وكتّاب مسرحيين، لكن باسمهم الخاص وباستخدامهم الخاصّ لمصلحة رواية العصر الحديث، اشتباكاً ارتفع إلى مصاف المعركة الأدبية، لقد ترسّخت الرّواية بوصفها جنساً هو نفسه سائد في عالم الأدب في عصر توسّع الإنتاج الصّناعي وسيطرة رأس المال على المستوى الاقتصادي، وفي عصر تفتّح الوضعية العلمية على المستوى الإيديولوجي، وبكلّ تأكيد لم يكن كلّ الرّوائيين واقعيين، حتّى وإن تجاوزت الواقعية تجاوزاً واسعاً بكثير من الملامح حدود المدرسة الواقعية، وبكلّ تأكيد طعن بعض الواقعيين الأكثر شهرةً بالمصطلح، الذي عدّ “ملتبساً” و”انتقالياً”، وبكلّ تأكيد لم يقف النّقاد مكتوفي الأيدي، فالمعترضون ردّوا ضربةً بضربةٍ”.
ويختم “بيير شارتييه” دراسته بما لا يقلّ عنها أفكاراً، ومنها نقتبس: “عملياً، يجب على الرّاوي – والقارئ أيضاً – أن يقوم بعملية فكّ رموز طويلة وصعبة، مخيبة ولذيذة لكلّ العلامات: علامات حضارية وعلامات حبّ وعلامات حسّاسة، علامات الفنّ التي هي مغلفة في الزّمن المفقود”.
يذكر أنّ الكتاب صادر عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب وزارة الثّقافة دمشق 2023.