مجلة البعث الأسبوعية

د.راتب سكر.. آن الأوان للحد من ظاهرة جلد الذات في الثقافة العربية

البعث الأسبوعية- أمينة عباس

وصِف بأنه موسوعة علم وثقافة لا حدود لها كونه شاعراً مبدعاً وباحثاً أكاديمياً ومربياً من الطراز الأول وأستاذاً جامعياً ومترجماً عن اللغة الفرنسية والروسية. درس الأدب المقارن في جامعة دمشق وحماة التي كرّمته مؤخراً بمناسبة تقاعده، وحين وصف أهم المحطات في سيرته الإبداعية والمهنية في حوارنا معه قال: “ورثت عن أبي وجيل أساتذتي مخاوف الحربين العالميتين الأولى والثانية، متوجتين بنكبة فلسطين عام 1948 وعشت فرح التغيير إلى عالم أفضل مع الثورات العربية المتلاحقة في الخمسينيات والستينيات، ومشيت طويلاً في أزقة لبنان وسورية واليمن ومصر والأردن في مراحل الحياة المختلفة، وها أنا ذا أضرب كفاً بكف متسائلاً عن أحلامي الكبرى في انتماء عربي وإنساني لائق وعدتُ به صفحات كتاباتي الشعرية والقصصية والنقدية مرة بعد مرة، مخفياً بين سطورها مكابدة الخذلان والأسى، ومتمرداً على قيودهما ودموعهما، مصرّاً على التبشير بأمة “لو جهنم صبت على رأسها واقفة”.

*لماذا يُعدّ مصطلح “الأدب المقارن” خلافياً وقد نقده كثير من الباحثين؟

**ولِد مفهوم “الأدب المقارن” من رحم المحاضرات التي ألقاها الناقد الفرنسي آبل فرانسوا فيلمان في جامعة السوربون بين عامي 1828-1829 وسرعان ما انتشر بين دارسي الآداب، وتكرس هذا المفهوم مصطلحاً في الثقافة الفرنسية على الرغم من تعرضه للنقد والرفض من غير ناقد ودارس، ولاسيما جان جاك آمبير1800- 1864 الذي قدم مصطلحات بديلة في وقت مبكر، وجاء موقف ناقد ذي حضور مؤثر في الثقافة الفرنسية هو سانت بوف “”1804- 1869 تلميذ آمبير ليحسم المسألة، فرجح دقة ما طرحه أستاذه من رؤى وتسميات بديلة، غير أنه وجد مفهوم فيليمان أسهل للتداول على الرغم من افتقاده الدقة العلمية في التعبير عن المراد، ومشهد هذا الصراع حول فقدان لمصطلح جدارته للدلالة على اتجاه جديد في دراسة أدب من الآداب في علاقاته الخارجية خارج حدوده القومية والدولية راح يتكرر في فرنسا وتنتقل عدواه تباعاً إلى البلدان المختلفة، ومنها البلدان العربية بين من يقترح مصطلحاً بديلاً ومن يوافق عليه موافقة تشبه موافقة سانت بوف التي ما زالت تشكل حلاً وفاقياً يقبل بعد جدالات لا تخلو من فوائد.

*ما الذي دعا سوزان باسنيت أستاذة دراسات الترجمة في جامعة لندن للقول: “لقد ولت أيام عظمة الأدب المقارن بوصفه دراسة أكاديمية”.

**ثمة مناهج نقدية جديدة راحت تنافس هيمنة الأدب المقارن نقدياً وجامعياً من أبرزها مناهج العلوم السردية الفرنسية وغيرها متكاملة مع الدرس الأدبي المقارن، وكان ذلك ظاهرة صحية علمياً تبعد عن الروح المنهجية للدراسات الأدبية أحادية الرؤية، تلك الأحادية التي كانت مطباً غير مرة أمام تحقيق نهضات أدبية عتيدة.

*كثيرون يؤكدون أن الأدب المقارن في الثقافة العربية ما زال يعاني من قصور رغم أهميته اليوم،فما هي الأسباب برأيك؟

**في هذه الرؤية ظلال تشاؤم في غير محله، فقد شهدت العقود الماضية ظهور مؤلفات عربية مهمة في مضمار الأدب المقارن وأُنجزت بحوث ورسائل جامعية نوعية في هذا المضمار، وما يشوب قسماً مما أُنجز أو جُلّه نظرياً وإجرائياً من هنات لا يصل إلى مرتبة القصور، وقد آن الأوان للحدّ من ظاهرة جلد الذات في الثقافة العربية واعتراف كل منا بما ينجزه زملاؤه والحد من التلذذ بإلغائه وإلغائهم. لقد تراكمت جهود عربية كثيرة منذ منتصف القرن العشرين مشرقاً ومغرباً وعُقدت مؤتمرات أكاديمية نوعية للأدب المقارن وشاركتُ مع أقراني في معظم ما عقد منها في الجامعات السورية والأردنية والمصرية وغيرها.

*تؤكد الدراساتِ الحديثة في مجال العلاقة بين الأدب المقارن والترجمة وجود علاقة معقدة بينهما، فمن أين يأتي هذا التعقيد؟

**كانت الترجمة بين الآداب رافداً ودعماً للدرس الأدبي المقارن، ومفهوم التعقيد مؤسس على رغبة بعض المشتغلين في الترجمة في الاستئثار بحقولها النظرية والإجرائية بعيداً عن الاعتراف بالحق الشرعي للأدب المقارن في تقديم لا مناص منه للدراسات الجادة لتلك الحقول. هل نتذكر كيف يستبعد المعنيون بمؤتمرات الترجمة أساتذة الأدب المقارن في الجامعات على الرغم من حضور الترجمة نظرياً وإجرائياً في المناهج الدراسية للأدب المقارن. إن روح الفردية والاستقلالية تغيّب أهمية تعاضد الجهود والمناهج في دراسات الظواهر الأدبية والثقافية، فيجري تناسي من حين إلى حين أن الترجمة موضوع دراسي مشترك بين أكثر من علم، وهذه الحقيقة يتجاهلها مترجمون كثيرون تجاهلاً يحرمهم قبل غيرهم مكاسب وفوائد جمة دانية القطوف.

*وماذا عن قول بعضهم أن الأدب المقارن في وضع حَرِج من تنامي دور الترجمة؟

**بالعكس تماماً، فتنامي دور الترجمة يدفق الماء في طواحين التفاعلات الأدبية الدولية، الموضوع الجوهري للأدب المقارن.

*باعتبار أن الترجمة فعل ثقافي يُسهم في تأهيل الوعي الثقافي من خلال تأثر الآخر في إكساب الذات مستويات متنوعة من المعارف ما السبيل لترسيخ قيم ثقافة الذات في الوقت ذاته؟

**دراسات الأدب المقارن للترجمة وظواهرها تتحمل منهجياً وظائف ثنائية الحدين في توصيف القيم الثقافية للذات والآخر وتحليل تفاعلاتها وتقويمها، وكل شغل على هذه الموضوعات بعيداً عن الأدب المقارن يضيع فرصاً منهجية ذهبية من فرص النجاح، ويبقي دراسات الترجمة أسيرة الارتجال.

*ما زالت حركة الترجمة متواضعة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، فكيف تفسر ذلك؟ وما هي التوجهات الحالية في سوق الترجمة بشكل عام في سورية؟

**مما لا شك فيه أن الحضور الثقافي العربي في العالم بالترجمة وغيرها ما يزال يعاني من معوقات كثيرة، مفتقداً خططاً مستقبلية طموحة، ومن الراجح أن قضية مثل هذه لا تتوقف على جهود قطرية وتتطلب تضافر الجهود العربية في هذا المضمار وتبدو الخطط الطموحة لوزارة الثقافة في دمشق في مضمار الترجمة مقتصرة على الاستقبال العربي للمؤلفات الأجنبية، وهذا ليس بالقليل، والطموح حالياً يتجه إلى سبل تعزيز ترجمة المنجز العربي إلى لغات العالم واسعة الانتشار، وهو اتجاه يحتاج إلى جهود وأرصدة باهظة.

*الترجمة الحرفية أكبر مطب يقع فيه المترجم في الأدب، فما هي حدود مساحة الحرية التي يمنحها المترجم لنفسه برأيك؟

**مساحات الحرية في الترجمة مفتوحة وضرورية، لكنها مشروطة بالصلات المعرفية بين المترجم وموضوع المادة المترجمة، ومن الراجح أن أزمة حقيقية قائمة عربياً في هذا المضمار، فاستعلاء المترجم غالباً يُشعره بأنه فوق السؤال عن صلته الجوهرية بموضوع ترجمته من جهة وتعاليه على وجود شريك معرفي في سياق تنفيذ الترجمة، فبعض المترجمين يصرّون على معرفته العميقة: لغة مصدر النص ولغة الهدف التي يترجم إليها وموضوعات الفنون والعلوم التي يترجمها، وفي هذا الإصرار مقتل الطموح إلى نهضات ترجمية مهمة.

*”كل ترجمة خيانة” مقولة يرددها بعضهم كيف أثرت هذه المقولة على واقع الترجمة برأيك؟ وهل هذه المقولة منتشرة لدى الغرب؟

**هي خيانة نبيلة تحقق أمجاداً ومنتشرة في الغرب والشرق وتضعف الأشواك في خياناتها مع تنامي الروح التشاركية في كل عمل مترجم بين ثلاثة عارفين متمكنين، عارف لغة المصدر، وعارف لغة الهدف، وعارف الموضوع وجسوره.

*ما هي أبرز المشاكل التي تعترض عمل المترجم في سورية؟

**أبرز المشاكل يصنعها بيديه عندما يتعالى على التعاون مع خبير لغة الهدف وخبير الموضوع المترجم ولا يجد سبيلاً إلى تحقيق شراكة معرفية ثلاثية باتت ضرورية.

*ما تقييمك لما كتبه أدباء عرب باللغة الفرنسية؟

**تدخلت الترجمة في حل عقد غربته وقد رأت د. سفيتلا نافيكت ورافنا براجوغينا أستاذتي المشرفة على رسالتي في الدكتوراه في كتاب مهم لها أن أدباء تونس والجزائر حيث عاشت سنوات من عمرها، والمغرب، الذين كتبوا بالفرنسية عاشوا على الحدود غرباء عن بلدانهم، إذ كتبوا بلغة غريبة عنها وغرباء عن بلد اللغة التي كتبوا بها لكتابتهم عن ذوات غريبة عنها ولم ينجح استقبال بعضهم في بلد المتروبول الفرنسي إلا عندما استقبل بوصفه ناطقاً باسم مجتمع غريب، وعلى العموم بقي هذا الأدب محتاجاً إلى مصالحات عربية كثيرة ما تزال منتظرة دورها في أروقة التصالح العربي.

*ميزت في كتيّب صدر لك بين مصطلح الأدب العالمي وعالمية الأدب والآداب العالمية، حبذا لو تشرح لنا الفرق بين هذه المصطلحات.

**هذه المصطلحات الثلاثة يوظفها بعض من دارسي الأدب مترادفة مما يهز دلالاتها الدقيقة، فاصطلاحياً يوجد أدب عالمي واحد مكتوب أساساً بلغات مختلفة حقق انتشاره عالمياً بوساطة الترجمة أو بكتابته أساساً بلغة واسعة الانتشار عالمياً كالإنكليزية أو الإسبانية، وفي المناهج الجامعية العربية حلّ مصطلح الآداب العالمية غالباً محل مصطلح الأدب العالمي خطأ نتيجة التسرع حيناً ونتيجة قبول المتحمسين لانفتاح عربي على ثقافات العالم حيناً آخر، ولا بد من الاعتراف بالخطأ والاتفاق على ترجيح مصطلح “الأدب العالمي” للدلالة على كل عمل أدبي اتسم بسمات الجودة وتحقق له اعترافاً ذا مصداقية بها وانتشاراً مهماً متنوعاً خارج كيانه القومي مهما تنوعت لغته الأولى وجنسيته، وبذلك يمكن أن نجد في قائمة هذا الأدب العالمي أسماء لكتّاب من بلدان منوعة جداً من الهند مثل طاغور، ومن لبنان مثل جبران خليل جبران، ومن تشيلي مثل بابلو نيرودا، وغيرهم.. وستفتح الترجمات الحديثة الأبواب من جديد أمام الآداب القديمة لاكتساب صفة العالمي كما حدث لقصائد عمر الخيام عندما ترجمها إلى الإنكليزية إدوارد فيتزجيرالد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد وفاة مؤلفها بسبعة قرون مما يعني أن صفة العالمية قد تصل متأخرة إذا لم تتوفر للنص شروط من خارجه، فالنصوص التي يخبئها أصحابها أو ورثتهم في صناديق مقفلة ويرمون الصناديق في جب مظلم سيصعب وصولها إلى مراتب العالمية إذا لم تمر بجبها قافلة سيّارة.

*يتم الحديث دوماً عن تأثر الأدب العربي بالأدب العالمي،فهل تأثر الأدب العالمي بالأدب العربي برأيك؟

**لا يوجد أدب مهم في العالم لم يفتح نوافذه على الآداب الأخرى مهما كان شأنها، وغالباً ما يكون انفتاح الأدب على الثقافات المتنوعة شرطاً مضمراً من شروط تحقق وصفه بالعالمي، لذلك نجد أن دراسة تأثر الأدب العالمي بغيره من الآداب أسهل من دراسة تأثر أدب محدود الانتشار بالآداب الأخرى، فكأن الذي يحبذ الانغلاق على الذات يحكم عليها مسبقاً بمصيرها في شرانق العزلة.

*لك في حقل الشعر عدد من الإصدارات،فهل كانت محطة الشعر في حياتك حاجة وضرورة أم أنها كانت مجرد استراحة لك؟

**محطات الشعر ضرورية وجوهرية في حياة كل إنسان، وتصبح ضرورتها حتمية في حيوات المشتغلين على حقول الثقافة، ومن الراجح أن افتقاد أوفيليا لمنصة الشعر في مسرحية “هاملت” هو الذي دفعها إلى الجنون، وافتقاد هاملت لهذه المنصة هو الذي عزز تردده وأخمد شعلة رؤاه، ولولا الشعر لما كانت حالي وأحوال كثيرين أحسن حالاً من حال هاملت أو حال أوفيليا.

*لك مجموعة قصصية واحدة بعنوان “تقارير كاذبة” فلماذا اكتفيت بها؟

**لفن القصة وظائف نوعية مختلفة، فهي ليست تعويذة للوقاية من الجنون بقدر ما هي سلاح هجاء في مواجهة الخصوم الفكريين والوجدانيين وتصفية قلاعهم بضربات السخرية المرة تارة وتعرية دوافعه تارة أخرى، ومن هنا كان القص شريكاً للشعر منذ فجر الفنون الأدبية، ويلاحَظ أن كبار الشعراء عربياً وعالمياً في عصرنا الحديث اكتشفوا الدور التكاملي شعرياً وقصصياً ومسرحياً في وجداناتهم، فنشروا القصائد والقصص والأمثلة كثيرة في هذا المضمار من بورخيس الأرجنتيني عالمياً إلى شوقي بغدادي وممدوح عدوان عربياً.

*تشرف على نادي الأدب والثقافة الذي يعقد جلساته أسبوعياً في مركز ثقافي في أبو رمانة، فما هي الأهداف التي تسعى لتحقيقها من خلاله؟

**نادي الأدباء الشباب في المركز الثقافي العربي الذي ارتضى مؤخراً حمل اسمه الجديد “نادي الأدب والثقافة” حمل منذ انطلاقته عام 2012 أهدافاً متنوعة، من أبرزها الارتقاء بالذائقة العامة في استقبال الآداب وفنونها بين المؤلفين والقراء والارتقاء بحالات الحوار بين المهتمين بها بعيداً عن المهاترات والمكائد السوداء.

…..

ولِد د. راتب سكر في العام 1953 في حماة، إجازة في الآداب من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية- جامعة دمشق-وقسم اللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، دكتوراه في الآداب من معهد الاستشراق من موسكو  1991يترجم عن الفرنسة والروسية، أستاذ الآداب العالمية والأدب المقارن في جامعتي حماة ودمشق، صدر له في الشعر ست مؤلفات من بينها: “وجهك وضاح ثغر باسم، في حضرة العاصي، سلافة الروح” وفي القصة مجموعة بعنوان “تقارير كاذبة” أما في الدراسات الأدبية فلديه عدة إصدارات منها: “أسماء على ضفاف العاصي، مدخل إلى الأدب العربي في العصر العثماني”.