في حضرة الحب والزمن الجميل
سلوى عباس
دعتني صديقتي منذ أيام إلى جلسة مع بعض صديقاتها اللواتي اعتدن على اللقاء مرتين في الشهر يخصصنه لتناول بعض النشاطات الثقافية من رواية أو شعر أو موسيقا أو سينما، وكانت الجلسة هذه المرة سينمائية حيث اخترن فيلم “ما يطلبه المستمعون” للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد حيث أنه من وجهة نظرهن يعبّر عن زمن جميل نفتقده الآن في حياتنا، فزمن الفيلم يعود إلى ستينيات القرن الماضي وحرب حزيران، والحدث مرتبط بيوم الثلاثاء حيث اعتاد أهل القرية على الاجتماع في بيت أبي جمال الذي يجسد مثالاً حياً للريفي الطيب البسيط، المحب وواسع الصدر، يأتي أهل القرية للاستماع إلى برنامج “مايطلبه المستمعون” ينتظرون سماع أسمائهم من خلال الأغاني التي طلبوها من الإذاعة عبر بائع القرية الجوال الذي كان يأخذ طلباتهم للأغاني ويضعها في صندوق البريد في المدينة، هذا الفيلم الذي يطرح عبد الحميد من خلاله الكثير من الأسئلة التي تؤرقنا جميعاً، وتفرض نفسها علينا في زمن نعيشه الآن، فهناك من يسعى لقتل الحب فينا والفتك بآمالنا وأحلامنا، هذه الأسئلة يطرحها عبد الحميد تحت وطأة الحرب التي كانت دائرة آنذاك، هذه الحرب التي حرمت حبيباً من حبيبته حين ناده الواجب الوطني لتأدية الخدمة الإلزامية.. حبيبته التي كانت قد أهدته أغنية “جايبلي سلام” للمطربة فيروز باسم الأميرة العاشقة إلى حبيبها العتيق، لكن مصادفة القدر أن تُبث الأغنية في اللحظة التي تُستهدف دبابة الحبيب بقذيفة تقضي على أفراد الدبابة جميعاً، ويعود إليها حبيبها شهيداً مدثراً بالعلم السوري على وقع كلمات الأغنية، التي تعتبر هدية من كل أم أو حبيبة انتظرت حبيباً لها ليعود ملفوفاً برمز العزة والكرامة العلم السوري الذي يخفق في روح كل من ينتمي لسورية، هذا الانتماء الذي يمثل علامة فارقة للسوري بين الشعوب العربية كلها.
هي الحرب إذاً، أفسدت على الناس الطيبين أوقات راحتهم، وفرحتهم بسماع أغنية يحبونها، هذه الحرب التي أدمت قلوب الكثيرين ضمن أجواء نسجها عبد اللطيف عبد الحميد كما يحب ويشتهي، فاقترب من القلوب وابتعد عن الدنيا ومشاكلها في قرية بسيطة صغيرة تعيش مساحة الحب وعفوية الحياة ونقائها، لكن هناك شيء ما يبقى قاسماً مشتركاً بين الناس، وأقوى من حب الإنسان للإنسان هو حب الوطن، هذا الزمن الذي كان “الراديو” وسيلة التواصل الوحيدة مع العالم الخارجي، مما جعل الناس يعيشون على الخيال من خلال الأخبار التي يبثها لهم هذا الجهاز الصغير، بعكس ما نعيشه اليوم في عصر الانفتاح، وتعدد وسائل الاتصال التي شتتتنا كل واحد في اتجاه، وقتلت فينا روح المحبة والألفة، لنبقى موزعين بين انشغالات الحياة وتراكماتها.
مع هذا الفيلم عشنا في هذه الجلسة حالة من الحب أطلت على قلوبنا بعد أن ظننا أننا غادرنا بعضاً من أجزائنا، وأن لتلك الحواس الدافئة لدينا عمراً قد انتهى، وأن الجفاف أصاب أرواحنا، ولا غيمة ستأتي لتدق أجراسها الاحتفالية في مسامنا، وقد أغنى هذه الجلسة النقاش الذي دار بيننا حول الفيلم ومعطيات سينما المؤلف وأهمية السينما كمرآة تعكس قضايا المجتمع عبر عدسة شفافة ترصد الواقع بكل تجلياته، فشكراً لصديقتي على هذه الجلسة التي نفتقدها في زمن أغرقنا في تفاصيل الحياة، وشكراً للمخرج المبدع عبد اللطيف عبد الحميد الذي تحتفظ أفلامه براهنيتها، فأحداث الفيلم الذي مضى على إنتاجه عشرون عاماً، تعيشها سورية اليوم بألم وقسوة تفوق بكثير ما عاشته في فترة الحرب التي تدور أحداث الفيلم خلالها، ومشهد الشهيد الملفوف بالعلم السوري يعيشه السوريون كل يوم عشرات المرات حيث تزف العشرات من شهدائها ملفوفين بالعلم السوري، وقد أعادنا هذا الفيلم إلى زمن بعيد جميل يحمل الكثير من القيم والمفاهيم، محملاً بنسيمات مضمخة بعبق أيام ذكراها خالدة في وجداننا.