مجلة البعث الأسبوعية

أرادوها سياسيّةً فانقلبت اقتصاديةً إنسانيّة “قمّةُ العشرين”.. فشلٌ غربي وانتصارٌ للجنوب على الشمال

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

لا شكّ أن انعقاد قمّة العشرين في العاصمة الهندية نيودلهي يحمل دلالاتٍ مهمّة في الواقع العالمي الحالي، لجهة أن الهند الدولة النامية عضو في مجموعة “بريكس” التي انعقدت قمّتها مؤخراً في جنوب إفريقيا، وخاصة أن القمّتين المقبلتين لمجموعة العشرين ستُعقدان في البرازيل وجنوب إفريقيا العضوين الرئيسين في مجموعة “بريكس” أيضاً، الأمر الذي يشير من جانب خفيّ إلى محاولة من جانب الأعضاء الغربيين في المجموعة لاستقطاب أكبر عدد من حلفاء روسيا والصين في العالم وربطهم بالغرب، وصولاً إلى شرذمة جميع التحالفات والشراكات الاقتصادية التي ينسجها هذان البلدان حول العالم.

 

فشلٌ غربيٌّ

وأوّل القضايا التي حاولت الدول الغربية فرضها على جدول أعمال القمّة كانت العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وذلك في محاولة لإصدار قرار جماعي مناهض لروسيا من دولٍ هي في أغلبها ترتبط بعلاقات ممتازة معها، وقد فشلت هذه المحاولة، حيث تضمّن الإعلان المشترك الذي تبنّته القمّة، اعترافاً بوجود وجهات نظر وتقييمات مختلفة لأحداث أوكرانيا بين الدول الأعضاء في المجموعة، وذلك على الرغم من أن الإدارة الأمريكية سعت جاهدة إلى إدراج موضوع النزاع بين روسيا وأوكرانيا في البيان المشترك للقمّة انطلاقاً من الهند.

وقد انعكس ذلك بوضوح فيما أفاد به جوناثان فاينر، النائب الأول لمستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، حيث قال: “فيما يتعلق بالبيان المشترك المحتمل، لا أريد أن أستبق الأمور فإن الحوار حول مضمونه لا يزال مستمراً. إن التوصل إلى وفاق في هذا المنتدى أصعب دائماً منه على صعيد مجموعة السبع مثلاً، لأن تلك المجموعة عبارة عن تجمّع للبلدان ذات الآراء المتشابهة للغاية، بينما مجموعة العشرين هي ببساطة هيئة أكثر تنوّعاً مع اختلافات كبيرة في وجهات النظر، وخاصة حول بعض القضايا الدولية، وموضوع روسيا وأوكرانيا على رأس القائمة”.

وحسب فاينر، الذي رافق الرئيس الأمريكي جو بايدن في رحلته إلى الهند، فإن تضمين البيان نقطة تتعلق بالعملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا “سيكون أمراً صعباً”، وذلك في اعتراف صريح بصعوبة التأثير في حلفاء روسيا بهذا الجانب.

أما رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، فقد أعلن هو الآخر في وقت سابق من القمّة أن دول مجموعة العشرين غير قادرة حالياً على التوصّل إلى اتفاق بشأن قضية المناخ والأزمة الأوكرانية بسبب موقف الصين، بينما صرّحت الخارجية الروسية بأن دول مجموعة السبع تمارس ضغوطاً على الهند لتضمين الوثائق الختامية لمجموعة العشرين مواقفها الأحادية تجاه النزاع في أوكرانيا.

 

تركيزٌ على الإنساني وتهميشٌ للسياسي

وجاء في الوثيقة الختامية للقمّة: “لقد لفتنا إلى المعاناة الإنسانية والآثار السلبية الإضافية للحرب في أوكرانيا على الأمن الغذائي وأمن الطاقة العالمي وسلاسل التوريد والاستقرار المالي الكلي والتضخّم والنمو، ما أدّى إلى تعقيد البيئة السياسية بالنسبة للبلدان، وخاصة البلدان النامية والأقل نمواً، التي لا تزال جميعها تتعافى من جائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية التي قوّضت التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.. وكانت هناك وجهات نظر وتقييمات مختلفة للوضع”.

وهذه اللفتة في حقيقتها تدعم رأي موسكو في أن الغرب يستغلّ الأزمة الأوكرانية لصناعة أزمات اقتصادية في العالم تتأثر بها الدول النامية والفقيرة بشكل مباشر، ويستخدم صفقة الحبوب وسيلة لتحقيق مكاسب جيوسياسية ولا تهمّه أصلاً مسألة الأمن الغذائي، حيث يصرّ على منع روسيا من تصدير الحبوب والأسمدة إلى الدول الفقيرة من خلال تطبيق العقوبات عليها وحرمانها من استخدام نظام سويفت في التعاملات المصرفية، رغم أن الأخيرة أبدت استعدادها لتوريد هذه المواد إلى الدول الفقيرة مجاناً.

ومن هنا، عارضت مجموعة العشرين استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها، كما دعت إلى التنفيذ الكامل لاتفاق الحبوب لضمان إمدادات الغذاء والأسمدة من روسيا وأوكرانيا، وإلى إصلاح منظمة التجارة العالمية.

 

تمسّك بالقانون الدولي دون تسييس

كذلك أعرب النص التوافقي للإعلان عن دعم “السيادة والسلامة الإقليمية” فيما يتعلق بالنزاع في أوكرانيا، دون أن يحتوي على عبارة من إعلان قمّة بالي لعام 2022 تحدّثت عن “عدوان روسي”، وهذا في الواقع يمثّل تراجعاً غربياً عن السقف العالي الذي تمسّك به في القمّة السابقة.

وأضاف النص: “تماشياً مع ميثاق الأمم المتحدة، يجب على جميع الدول الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها لتحقيق مكاسب جغرافية ضد سلامة الأراضي والسيادة أو الاستقلال السياسي لأي دولة”، وهذا طبعاً يشمل جميع الأماكن في العالم التي تتعرّض للتدخلات العسكرية الغربية وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وأشار زعماء مجموعة العشرين إلى الأهمية الحاسمة لـ”(أسلوب) الحل السلمي للنزاعات والحوار”، وإلى ضرورة احترام مبادئ القانون الدولي، بما في ذلك “سلامة الأراضي والسيادة”، مؤكّدين أن القمة ليست منصة لحل المشكلات الجيوسياسية.

 

صفعةٌ للغرب عبر أوكرانيا

البيان الختامي للمجموعة كان بمنزلة صفعة على وجه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي، حسبما قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، مايكل ماكول، وهو في الحقيقة صفعة له ولمَن يدعمه من الغرب الجماعي، حيث إن بيان العام الماضي أعطى أوكرانيا الأمل في الانضمام إلى حلف الناتو عقب الاتفاقيات الأمنية ونهاية الصراع، أما الآن فبيان القمّة يقرّ “بعدم وجود ما سمّاه زيلينسكي وحاشيته العدوان الروسي على أوكرانيا”.

ونتيجة لهذا الإقرار اعتبرت شبكة CNN أن بيان القمّة الختامي العام الجاري “أضعف” من العام الماضي.

ومن جانبها، وصفت المرشحة الرئاسية الأمريكية نيكي هايلي هذا القرار بأنه “انتصار لروسيا والصين” وانتقدت الرئيس الأمريكي لفشله في إقناع مجموعة الـ20 باتخاذ موقف أكثر صرامة.

وقالت هايلي: “الصين منتصرة، وعينها على تايوان بينما يتكشف كل هذا، وهذا أمر مؤسف”.

وفي وقت سابق، قال بايدن: تم الاتفاق خلال قمّة مجموعة العشرين، على ضرورة التوصّل إلى حل سلمي للوضع في أوكرانيا.

وأفادت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية بأن البيان الختامي لقمّة مجموعة العشرين في الهند كان بمنزلة ضربة للدول الغربية بسبب عدم وجود إجماع عالمي على دعم أوكرانيا.

الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وهروباً من الإحراج، أعلن أن الهدف الرئيسي لمجموعة العشرين هو مناقشة القضايا الاقتصادية والمشكلات العالمية، لذا فإن موضوع النزاع الأوكراني لم يكن أولوية في القمة.

وقال ماكرون في مؤتمر صحفي في دلهي، رداً على سؤال أحد الصحفيين حول ما إذا كان يعدّ البيان الختامي للقمة، الذي تحدّث بشكل محايد إلى حدّ ما عن أوكرانيا، بمنزلة هزيمة للدول الغربية: “المهمّة الرئيسية هي مناقشة القضايا الاقتصادية والمشكلات العالمية”.

وأضاف: إن مجموعة العشرين تمثل دولاً ذات وجهات نظر مختلفة حول العديد من القضايا، بما في ذلك أوكرانيا.

واعتبر أنه سيكون من غير المعقول عرقلة اعتماد بيان ختامي للقمة لمجرد عدم وجود توافق في الآراء حول القضية الأوكرانية.

وكان الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، قد أكد أنه من غير الملائم بحث الوضع الحالي في أوكرانيا في إطار مجموعة العشرين.

وقال لولا دا سيلفا: “تم إنشاء مجموعة العشرين بسبب أزمة 2008 لبحث القضايا الاقتصادية ومؤسسات بريتون وودز والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لذلك نعتقد أن الهند ليست ساحة مثالية لبحث هذه الحرب”، كما نقلت شبكة CNN البرازيلية.

 

أولوية الأزمات العالمية والمناخ

ورأت مجموعة العشرين أن “الأزمات المتتالية” تهدّد النمو العالمي على المدى الطويل، وبالتالي ينبغي التخفيف من حدّة المخاطر التي تشكّلها الحروب والأزمات على النموّ العالمي الذي بات مهدّداً نتيجة مناخ عدم الاستقرار الذي تبثّه التدخلات العسكرية في أماكن معيّنة من العالم.

ومن المواضيع الملحّة أيضاً التي ناقشتها القمّة مسألة التغيّر المناخي وأثره السلبي على العالم برمّته، وهو موضوع يرفض العديد من الدول مناقشته وخاصة تلك الدول التي تساهم مساهمة كبيرة في زيادة التلوّث، ومنها الولايات المتحدة، وبالتالي تعهّدت مجموعة العشرين بـ”تسريع” العمل لمكافحة تغيّر المناخ، وبدعم جهود زيادة القدرة العالمية للطاقة المتجددة ثلاث مرات بحلول 2030، حيث أشار الرئيس البرازيلي إلى أن “غياب الالتزام بالبيئة دفعنا إلى حالة طوارئ مناخية غير مسبوقة”، وأضاف: إن “الجفاف والفيضانات والعواصف والحرائق باتت أكثر تواتراً”.

 

أوّل انتصار للجنوب على الشمال

ويبدو أن استضافة كل من البرازيل للقمّة المقبلة في (2024) وجنوب إفريقيا (2025)، تعدّ خير مثال على ترجيح كفّة الجنوب على الشمال في المستقبل المنظور الذي سيشهد صعوداً قويّاً لمجموعة من الدول النامية في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن هناك تغيّراً واضحاً في خريطة النفوذ في العالم يشير بشكل عميق إلى القناعة الكاملة لدى الجميع بأن هناك ولادة لنظام عالمي جديد يحاول جميع الحاضرين حجز مقعد له فيه.

وجاءت دعوة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي استضافت بلاده القمّة، الاتحاد الإفريقي للانضمام إلى المجموعة رسمياً، لتؤكّد حقيقة الوضع الجديد الذي يشهده العالم في سباق واضح وقوي على الاستئثار بعلاقات قوية مع الدول الإفريقية التي يبدو أنها ستكون عاملاً مرجّحاً في تشكيل النظام العالمي الجديد.

وقال مودي في كلمته الافتتاحية بالقمة: “بموافقة الجميع، أطلب من رئيس الاتحاد الإفريقي أن يأخذ مكانه كعضو دائم في مجموعة العشرين”، فانتقل رئيس الاتحاد الإفريقي الحالي رئيس جزر القمر غزالي عثماني، بعد ذلك للجلوس إلى جانب قادة دول مجموعة العشرين.

وهذا طبعاً يتوافق مع دعوة سابقة أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى دعم ربط الاتحاد الإفريقي بالجمعيات الدولية الرائدة، حيث كان من أوائل الداعمين لمبادرة منحه عضوية مجموعة العشرين.

 

هزيمة أمام روسيا والصين

على أن القمّة تنطوي في الحقيقة على هزيمة مرّة للغرب أمام روسيا والصين، حيث قال جون جيمس عضو مجلس النواب الأمريكي عن ولاية ميشيغان: إن روسيا والصين تعملان على إخراج الولايات المتحدة من الجنوب العالمي في حين يبدي الرئيس جو بايدن “الضعف”.

ووفقاً له، طار الرئيس الأمريكي “مع حاشيته” إلى قمّة مجموعة العشرين على متن طائرات لإلقاء محاضرة على الهند والجنوب العالمي حول تغيّر المناخ.

ورأى جيمس أن “روسيا والصين تعملان على تحويل الجنوب العالمي ضدّنا”، ويتم طرد البزنس الأمريكي من هناك.

وتابع عضو الكونغرس القول: إن الدول الغربية، التي تحاول كسب تأييد الجنوب العالمي، تواصل ممارسة سياسة خارجية تصرّ فيها على إلقاء المواعظ على الآخرين.

وفي وقت سابق، أفادت مبعوثة روسيا إلى مجموعة العشرين سفيتلانا لوكاش، بأن دول مجموعة العشرين تمكّنت من تحقيق نتائج مهمّة في قمة دلهي، حيث عكست كل قضية مصالح الاقتصادات النامية في الجنوب العالمي.

ولا شك أن نتائج القمّة عكست انتصار روسيا والصين في كثير من المجالات، حيث وصفها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بأنها كانت ناجحة، وأضاف: إن مجموعة العشرين تعيش الآن إصلاحاً داخلياً.

وقال لافروف خلال مؤتمر صحفي في ختام قمّة G20: “إن القمّة تمثل نجاحاً دون أي شك، أولاً وقبل كل شيء للرئاسة الهندية، ولكن أيضاً لنا جميعاً”.

وتابع: إن “مجموعة العشرين تشهد نوعاً من الإصلاح الداخلي، يتجلّى بالدرجة الأولى في الزيادة الملموسة في نشاط أعضاء مجموعة العشرين من الجنوب العالمي الذين عملوا بوضوح وإصرار، مع الدور القيادي للهند، على أخذ مصالحهم بعين الاعتبار في الاتفاقيات التي بحثتها مجموعة العشرين، ونجحت في تضمينها إعلان القمّة”.

ومن أبرز التصريحات التي أدلى بها لافروف، أن قمّة مجموعة العشرين في نيودلهي كانت بمنزلة نقطة تحوّل فيما يتعلق بالتوجّهات لضمان توازن المصالح في الاقتصاد العالمي، وستعطي زخماً جدياً لإصلاح صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.

 

إقرار باستحالة استمرار الهيمنة

الواقع الجديد الذي فرضته القمّة على الغرب، هو ضرورة الالتفات إلى مصالح الدول النامية والفقيرة وأخذ حاجاتها الأساسية بعين الاهتمام، وهذا لم يتحقّق إلا بفضل توحّد الجنوب حول المطالبة بمصالحه بمعزل عن الإذعان للهيمنة الغربية، حيث أكد لافروف أن الغرب لن يتمكن من مواصلة خط الهيمنة مع ظهور مراكز جديدة للتنمية العالمية، وأن الموقف الموحّد للجنوب العالمي في الدفاع عن مصالحه المشروعة، أسهم إلى حدّ بعيد في إفشال محاولة الغرب “أوكرنة” جدول الأعمال بأكمله على حساب مناقشة المشكلات الملحّة للبلدان النامية، ولا سيّما أن هناك فهماً صحيحاً بين الدول النامية الأعضاء في مجموعة العشرين لما يحدث في أوكرانيا.

وأشار لافروف إلى أن إعلان مجموعة العشرين تضمّن مبادئ مهمّة للأمن الغذائي تدعمها روسيا، وأن ما ورد في إعلان مجموعة العشرين من دعوة لوقف الهجمات ضد منشآت الطاقة يشمل أيضاً الهجمات الإرهابية ضد خط أنابيب “السيل الشمالي” واستهداف محطة زابوروجيه للطاقة النووية.

خلاصة القول أن القمّة التي أراد من خلالها الغرب استدراج الدول النامية إلى حظيرته وإبعاد حلفاء روسيا والصين عنهما، انقلبت فشلاً ذريعاً لأجندته تلك، بل أكّدت للجميع أن النظام العالمي الجديد قد وُلد بالفعل ولا مجال مطلقاً للعودة إلى الوراء، وليس على الغرب إلا احترام مصالح دول الجنوب.