مجلة البعث الأسبوعية

صعوبة المرحلة لا تعني ترك رافعة الاقتصاد.. استسهال الاستيراد حوّل صناعيينا إلى تجار وأضحت الصادرات شبه غائبة من قاموس أعمالهم!

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

ربما يكون الحديث عن الصادرات في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها الاقتصاد السوري ضرباً من الخيال، لاسيما في ظل تدني مستويات الإنتاج، إلا أن هذا الأمر يجب أن لا يمنع أصحاب القرار من الاشتغال على هذه الحيثية بالتوازي مع تعزيز الإنتاج الذي يعدّ الرافعة الحقيقة للتصدير.

 استمرت كوجهة

ولعلّ ما يدعم كلامنا هذا أنه رغم سنوات الأزمة التي نافت عن عقد من الزمن، هناك دول أربع استمرت بدون انقطاع ضمن قائمة وجهة الصادرات السورية، وذلك وفقاً لبحث أكاديمي للباحث إيهاب اسمندر، تتصدرها السعودية التي كانت وجهة لحوالي 6% فقط من الصادرات السورية، لكنها ارتفعت تباعاً خلال السنوات اللاحقة إلى (12 – 10 – 14%) في أعوام 2016 – 2017 – 2018 على التوالي، لترتفع إلى 20 و21% في عامي 2019 – 2020، لكن الارتفاع الأكبر حصل في عام 2021 باستحواذها على 31% من الصادرات السورية.

الدولة الثانية هي تركيا، وهي من الدول التي تحسنت أهميتها كوجهة للصادرات السورية، فبعد أن كانت حصتها 5% في عام 2010، ارتفعت إلى 8% في عام 2016 ثم 9% في عامي 2017 و2018 ووصلت إلى 16% في عام 2019، أما أعلى نسبة لها فبلغت 26% في عام 2020، لتتراجع إلى 18% في عام 2021.

مصر، إحدى الدول المهمة كوجهة للصادرات السورية، كانت نسبة التصدير إليها 4% في عام 2010 من إجمالي الصادرات السورية في ذلك العام، لكنها ارتفعت إلى 16% في عام 2016، وهي أعلى نسبة خلال السلسلة، لتتراجع إلى 14% في عام 2017 و12% في عام 2018، من ثم ارتفعت نقطة واحدة ووصلت إلى 13% في عام 2019، وحصل بعدها تراجع كبير إلى 8% و6% في عامي 2020 و2021 على التوالي.

كما استمر لبنان كوجهة مهمة للصادرات السورية، حيث ارتفعت حصته من 4% في عام 2010 إلى 16% و17% في عامي 2016 و2017، لتنخفض بعدها إلى 13% في عام 2018، و12% في عام 2019 و11% في عام 2020، وارتفعت إلى 12% في عام 2021.

وإذا ما استعرضنا أهم الصادرات فسيتبين لدينا أن نسبة الخضار والفواكه بحوالي 31% لكل منها، ثم الزيوت والشحوم النباتية والحيوانية في المرتبة الثانية بنسبة 12%، بعدها أتت البهارات والقهوة والشاي، الملح والجير الصخري بحوالي 7% لكل منها، ثم الخضار والفواكه المحضرة بحوالي 6%، واكسسوارات الملابس 4%، فالقطن الخام حوالي 3%، يليها حبوب زيتية، مواد حجرية، حوالي 2% لكل منها.

 أرضية

ما سبق يعني أن لدينا أرضية يمكن الاشتغال عليها لتعزيز هذا الركن الاقتصادي المهم، في وقت لا تزال فيه الغلبة للاستيراد رغم محاولات الحكومة تفعيل النشاط التصديري من خلال تأسيس هيئة تنمية الإنتاج المحلي والصادرات التي لا تزال تسير بخطى مثقلة برواسب اقتصاد ميزانه التجاري خاسر، ويحتاج لخطوات وآليات ترفع سوية منتجاته لتصبح مقصدا تجاريا عالميا، لاسيما أن بعضها له خصوصية محلية جاذبة لكثير من الأسواق العالمية، مثل المنتجات الزراعية، الخام منها والمصنع، وكذلك الحلويات وبعض الصناعات التقليدية، كالقمر الدين والكونسروة التي غزت بعض ماركاتها السورية الأسواق العربية والأوروبية وأحيانا الأمريكية، فمن شأن هذه المنتجات فيما لو حازت على الترويج المطلوب أن ترفع قيمة صادراتنا مبدئيا وتطورها لمستوى موازاتها مع المستوردات لاحقا على أقل تقدير، مع الإشارة هنا إلى أن لغلبة الاستيراد على التصدير عوامل وأسباب لها علاقة بحيثيات وخصوصية كل منهما، لعل أبرزها أن الأول أكثر سهولة من الثاني الذي يحتاج إلى جهود وعمل منظم وعلاقات خارجية تصعب على التاجر العادي القيام بها، إضافة إلى أن اتخاذ قرار للقيام بالاستيراد هو قرار فردي يتخذه التاجر لوحده، بينما قرار التصدير يحتاج إلى شركاء في الخارج، لذلك نجد أن حركة نمو ونشاط الاستيراد أسرع من نظيرتها بالنسبة للتصدير الذي يحتاج إلى جهود كبيرة وسبر للأسواق ومشاركة بالمعارض وشركاء بالخارج، وحملات ترويجية وتسويقية، وهذا يستدعي تكاليف مادية.

 

تشكيك ولكن!

لاشك أن ثمة من يشكك بقدرة تجارنا وصناعيينا على التصدير، ويعتبر أن غزو بعض صادراتنا لأسواق الدول المجاورة خاصة العراق يعود لمصادفة تجار تلك الدول لها في بلدنا، ونجاح محاولتهم بتوريدها لبلدانهم. لكن في المقابل، لا يمكن إنكار وجود صادرات سورية تتميز بنوعية عالية وبذلت عليها جهود جيدة نسبيا للتعريف بها والترويج لها واكتشاف الأسواق المناسبة لها، ومنها الألبسة وبعض الصناعات التحويلية.

وبذات الوقت، لا يمكننا أيضاً إنكار أن صادراتنا لا تزال في أدنى درجاتها، وبالتالي لابد من اتخاذ إجراءات تزيد من قيمتها، وتحد قدر الإمكان من مستورداتنا، وذلك عبر تطوير جهازنا الإنتاجي بحيث يلبي رغبات ومتطلبات المستهلكين السوريين ويغنيهم عن استيراد السلع من الخارج. وبنفس الوقت، يجب أن يكون هذا الجهاز قادرا على إنتاج سلع وخدمات يمكن تصديرها، وبالتالي ترجيح كفة التصدير على كفة الاستيراد، لاسيما وأنه لا يوجد لدينا قيودا على التصدير إلا بالحدود الضيقة جدا وتطبق في حالات نادرة.

ظاهرة

ثمة ظاهرة بدأت تقض الاقتصاد السوري تتمثل بتحول معظم الصناعيين إلى تجار، وهي خطوة يمكن أن تؤثر في تراجع قيمة الصادرات السورية أكثر مما هي متراجعة حالياً، ما يستوجب المحافظة على العدد الأكبر من الصناعيين لزيادة القدرة الصناعية السورية، كون الصناعة تحقق القيمة الحقيقية المضافة، وبالتالي زيادة قيمة الصادرات. وللأسف، أصبح هذا الأمر ملموساً، والسبب في ذلك يعود إلى تحرير التجارة الخارجية المنفلت خلال فترة ما قبل الأزمة في ظل ظروف غير مواتية للصناعة السورية موضوعيا وذاتيا، وفي ظل عدم وجود بيئة مناسبة لأن تكون الصناعة السورية ذات تنافسية عالية وقادرة على الصمود في وجه المستوردات التي تأتينا من كل حدب وصوب وبنوعيات سيئة وبأسعار غير حقيقية وبتسعيرة جمركية غير كافية.

لاشك أن للقدرة التنافسية دورا مهما في دعم صادراتنا – إن لم يكن الدور الأهم – ما يعني أنها الخطوة الأولى لزيادة ربحية ميزاننا التجاري، عملا بالمثل الشعبي (الجيد يفرض نفسه). وفي البحث عن أسباب تدني مستوى تنافسية المنتجات السورية وانعكاس ذلك على عدم احتلالها الحيز المطلوب في الأسواق العالمية، يتبين أن المنتج السوري غير قادر على الخروج من حدوده إلا نادرا بسبب غياب الدعم المنظور وغير المنظور كالذي تتلقاه – على سبيل المثال – المنتجات المصرية والخليجية، سواء من ناحية انخفاض أسعار الطاقة، أو من ناحية النقل والشحن والإعلان، إضافة إلى أن النظام الضريبي والنظام الجمركي والفساد الإداري تعرقل المستثمر السوري وتجعله أقل قدرة على المنافسة.

أزمة

يواجه الاقتصاد السوري الآن أزمة كبيرة بسبب ضعف الإنتاجية وضعف الإدارة وعدم دعم الدولة بشكل كاف للمنشآت الاستثمارية. وهذا يحتم علينا دراسة هذه الأمور دراسة وافية وإجراء تغييرات جذرية على كثير من المسائل الاقتصادية والتحرك أكثر وبسرعة أكبر لحماية منتجاتنا، لاسيما أن سورية انتقلت من مرحلة الاقتصاد المركزي الموجه إلى مرحلة اقتصاد السوق الاجتماعي، وظهور تحديات جديدة لم تكن مألوفة بعضها مرتبط بالبيئة الاقتصادية والسياسات الاقتصادية في البلاد، والبعض الآخر مرتبط بطبيعة التنافسية في العالم، إلى جانب أن سورية دخلت في اتفاقيات تجارية كبيرة، الأمر الذي أتاح دخول المنتجات الأجنبية من الباب العريض. ومثال على ذلك، يعتبر قطاع الغزل والنسيج القطاع القائد تاريخيا في سورية، وكان الأتراك والدول العربية يستوردون منتجاتنا، واليوم نحن غير قادرين على منافسة الإنتاج التركي، بسبب ضعف الإدارة في القطاع العام أولا قبل القطاع الخاص، كون قطاع الغزل والنسيج قطاعا عاما بالدرجة الأولى.

 المطلوب

نعتقد أن المطلوب حالياً هو تطوير قطاعاتنا الاقتصادية الإنتاجية والتصديرية، لأن التصدير لا يمكن أن يقوى إلا إذا كان إنتاجنا تنافسيا وقويا، ونحن متفائلون بأن يلمس قطاعنا الخاص هذه المسألة، ولو ببطء، كون اقتصادنا هو اقتصاد نام. لكننا يجب أن نبحث عن المزايا النسبية التي نتمتع وننافس بها، لا أن نبحث عن كيفية منافسة الآخرين بمنتجاتهم، ونحن بالأساس غير قادرين على المنافسة بها، مثل الصناعات الثقيلة وصناعة الأدوات المنزلية ذات التقنية العالية، وتكنولوجيا المعلومات، وغير ذلك من الصناعات التي تحتاج إلى خبرة ومعرفة طويلة، في حين يمكننا المنافسة بالمنتجات والصناعات التحويلية التقليدية (النسيجية – الغذائية – القطنيات – الصناعات الحرفية.. إلخ).

كل ما سبق أدى إلى تراجع كثير من الصناعات السورية التي كانت ناجحة في وقت سابق، وعندما تتراجع الصناعة قد يضطر الصناعي للتحول إلى التجارة كون الأخيرة أكثر سهولة ويسر من الأولى، لكن في النهاية هذه ظاهرة غير صحية.

 آخر القول

لا شك أن الذراع الأقوى بتنمية صادراتنا هو القطاع الخاص، ما يعني ضرورة الاضطلاع بدوره الاقتصادي والوطني عبر زج الإمكانيات وحشد الجهود باتجاه تفعيل النشاط التصديري الذي لا يتأتى إلا من خلال التكامل الفعلي بين الصناعيين والتجار، وأن يأخذ كل طرف دوره الحقيقي بكل أمانة ووطنية، دون أن يتعدى أحدهما على الآخر، وبذلك نضمن – ولو نسبيا – عدم تحول اقتصادنا إلى اقتصاد هش وأجوف قائم على المنتجات الخدمية.