مجلة البعث الأسبوعية

شعراء فلسطين.. كلمات أقوى من الرصاص

 البعث الأسبوعية- أمينة عباس

ما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة هو تجلّ في أروع صوره للمقاومة الفلسطينية في مجابهة المحتل الغاصب، وهي المقاومة التي لم تتوقف في يوم من الأيام سعياً لتحرير الوطن من مغتصبيه، وقد أفرزت شعراً “شعر المقاومة” الذي كان وما يزال ركناً مهماً من أركان الأدب العربي الحديث، ويعرّفه النقاد بأنه تلك الحالة التي يعبّر فيها الشاعر بعمق وأصالة عن ذاته الواعية لهويتها الثقافية والمتطلعة إلى حريتها الحقيقية في مواجهة المعتدي في أي صورة من صوره, منطلقاً من موروثه الحضاري وقيمه المجتمعية العليا التي يودّ الحياة في ظلّها والعيش من أجلها وتعميق وتجذير الانتماء المقاوم في ذات المواطن الفلسطيني والعربي والوصول به إلى حالة الإحساس الدائم بوجود المقاومة على الأرض، وهذا ما دعا الإرهابي موشيه ديان بعد حرب 1967 للقول أن قصيدة يكتبها شاعر مقاوم تعادل عنده عشرين فدائياً.

ثالوث شعري

مع تصاعد المعاناة وتوالي الأزمات التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ عشرات السنين ظلت حناجر شعراء فلسطين تصدح دوماً بكلمات أقوى من الرصاص من أجل الدفاع عن شعبهم من ظلم الاحتلال الإسرائيلي والتأكيد على حقوقهم المشروعة في النضال حتى تحرير فلسطين، وقد مرت أجيال مختلفة من الشعراء ممن كان لهم عظيم الأثر والتأثير في الحفاظ على إبقاء قضية فلسطين حية في قلوب وعقول الشعب العربي والشعوب الحرة في العالم، وعلى الرغم من وفاة الكثير منهم إلا أن أشعارهم المؤثرة ما زالت تردّد لدى الشعوب العربية، وكان دورهم  تجاه فلسطين واضحاً جداً منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والأمثلة كثيرة كحسن البحيري ومطلق عبد الخالق، وغيرهما من الشعراء القدامى الذين كتبوا عن الثورات المتتالية، ومنها ثورة البراق 1929 ليسيطر في الثلاثينيات من القرن الماضي ثالوث شعري على الحياة الشعرية في فلسطين تكوَّن من إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وكان محمود شهيد معركة الشجرة، حيث كان يقاتل مع عز الدين القسام القوات البريطانية والصهيونية، وكان ينشد الشعر في المعركة، وهو صاحب القصيدة الخالدة “سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى، فإمّا حياة تسرّ الصديق وإمّا مماتٌ يغيظ العدى، ونفسُ الشريف لها غايتان، ورود المنايا ونيلُ المنى” في حين كان الشاعر إبراهيم طوقان يدعو للجهاد ضد الإنكليز وضرورة توحد الأمة في مواجهة الانتداب البريطاني والصهاينة بعد ذلك، ليستمر النضال عبر الكلمة قائماً جيلاً وراء جيل، فظهر العديد من الشعراء الكبار، وصولا إلى محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، عز الدين المناصرة، راشد حسين، وهم شعراء الأرض المحتلة الذين شاركوا في صناعة الثورة الفلسطينية والدفاع عن الأرض.

تمجيد الصمود والمقاومة

يتكون الشعر الفلسطيني الحديث حسب الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين من فرعين أساسيين: شعراء المقاومة في شمال فلسطين منذ العام 1964 وهم محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زيّاد، وشعراء الثورة ويمكن تمثيلهم بأربعة شعراء أساسيين: عز الدين المناصرة، معين بسيسو، مريد البرغوثي، أحمد دحبور الذين انتموا إلى فلسفة التحرر الوطني في ظل منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في القدس عام 1964 وقد جاء في كتاب “دراسات في الأدب الفلسطيني” الصادر في رام الله عام 2003 أن “حركة الشعر العربي الحديث في فلسطين كما تكشف عنها تجربة كل من محمود درويش وعز الدين المناصرة تجربة غنية ومتنوعة، تستوعب اتجاهات وأشكالاً شعرية متعددة، فهما يشكلان حالة شعرية ناضجة ومتطورة باستمرار، وقد ارتقيا بالقصيدة العربية إلى آفاق متقدمة” وقد طالب الكثيرون من النقاد بالتوقف عن فصل شعر الثورة عن شعر المقاومة كحالتين تاريخيتين باقيتين، فالمهم برأيهم هو أن يتم تمجيد صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتختصر بعض الكتب شعراء النصف الثاني من القرن العشرين في الشعر الفلسطيني بـ: فوّاز عيدو، خالد أبو خالد، محمد القيسي، راشد حسين، فدوى طوقان، توفيق زيّاد، معين بسيسو الذين أُطلِق عليهم “شعراء الوصلة” بين الشعراء العموديين وشعراء الحداثة.

شعراء المقاومة

أُطلِق وصف “شعراء المقاومة” على مجموعة من الشعراء الفلسطينيين وبعض القصائد، وقد راج المصطلح بعد نكسة 1967 وظهور المقاومة الفلسطينية بعدها بقليل، وأُطلِق هذا اللقب على شعراء بعينهم لكثرة إنتاجهم الغزير وهم: محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، وقد ظلّت أشعارهم لسان حال المقاومة الفلسطينية لفترة تزيد عن نصف قرن تقريباً، خاصة مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 والثانية عام 2000 حيث تم تلحين كثير من قصائدهم على يد مطربين وملحنين فلسطينيين وعرباً، ويرى كثير من النقاد أن أشعار قاسم ودرويش وزياد كانت حلقة الوصل بين الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال والشعب العربي الذي أقبل على قراءة ومتابعة أشعارهم، وقد ولِد هؤلاء في شمال فلسطين: توفيق زياد 1929 سميح القاسم 1939 محمود درويش 1941 والذي لُقّب بشاعر الأرض المحتلة، وله الكثير من الأشعار المعروفة في الوطن العربي كانت ملهمة للثوار مثل: “سجل أنا عربي” و”عابرون في كلام عابر” التي يقول فيها: “أيها المارون بين الكلمات العابرة.. احملوا أسماءكم وانصرفوا.. واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا.. وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة.. وخذوا ما شئتم من صور” في حين كان سميح القاسم الذي لُقَب بألقاب كثيرة منها “شاعر الغضب الثوري” يؤكد على أن الشاعر لا يستسلم بل يقاوم ويناضل حتى آخر رمق، ويواجه قدره دون خوف أو وجل.. يقول: “يا عدو الشمس لن أساوم/ وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم وأقاوم” فالشاعر بالنسبة له يحمل دمه على كفه، وقد جعل عنوان أحد دواوينه “دمي على كفي” وهو من قال: “جعلوا جرحي دواة، ولذا فأنا أكتب شعري بشظية” ويرى كثيرون أن قصيدته “الانتفاضة” من أشهر ما يمثل مقاومة الفلسطيني للاحتلال والتي يقول فيها: “تقدّموا.. تقدّموا براجمات حقدكم وناقلات جندكم.. كلّ سماء فوقكم جهنّم.. وكل أرض تحتكم جهنّم” أما الشاعر توفيق زياد فهو صاحب القصيدة الخالدة “أناديكم، أشدّ على أياديكم” التي غنّاها العديد من المطربين العرب، أبرزهم الشيخ إمام، وله العديد من المجموعات الشعرية التي تتضمن عدداً من القصائد حول المقاومة والنضال والحقوق والتي أصبحت جزءاً من التراث الحي لأغاني المقاومة الفلسطينية، ومنها: “أشدّ على أياديكم” التي صوّرت عذابات الفلسطيني في أرضه المحتلة وإصراره على البقاء وتحدي مخططات محو الهوية الفلسطينية، ومن قصيدته “باقون” نختار: “هنا.. على صدوركم باقون كالجدار.. نجوع.. نعرى.. نتحدى.. ننشد الأشعار ونملأ السجون كبرياء.. ونصنع الأطفال جيلاً ثائراً وراء جيل”.

طلقة الوعي

ويبيّن الناقد أحمد علي هلال أن الشعر الفلسطيني في الراهن الإبداعي المقاوم أصبح أمثولة تحتذى، ليس فقط وقوفاً على جداريات الحنين باستدعاء اللحظة المقاومة التي تراكمت عبر طبقات الوعي الجمعي الفلسطيني وقد أصبح لدى الشاعر الفلسطيني اليوم منظومة حتمية وفكرية استطاع من خلالها أن يرسّخ في الوعي ما تعنيه المقاومة بالنسبة للأجيال الفلسطينية استشرافاً ونهوضاً، مؤكداً أن الشعر الفلسطيني كان على الدوام ملتصقاً بالقضية الفلسطينية وتطوراتها التاريخية والأقرب إلى استشراف مفهوم المقاومة وترسيخ ثقافتها والانتماء لها وتعضيد فكرها اتصالاً بالدور الذي لعبه آباء الشعر الفلسطيني المؤسسون من أمثال عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم، وغيرهم من أجيال شعرية رأت في المقاومة نشيد الخلاص عبر أدواتها ورؤيتها، موضحاً أن شعراء سورية كانوا على خط تماس بالكلمة/الرصاصة وبقدرة الفلسطيني على اجتراح المعجزة في التحدي والبقاء وتحدي المحتل عبر أفعال شعرية دشَّنت أركان الشعرية الفلسطينية الجديدة، إذ أصبحت المقاومة نشيداً مفتوحاً يتوّج استعادة الإنسان الفلسطيني لهويته وكيانه، مبيناً أن الشعر الفلسطيني في سورية ومن خلال ما قدمته أجيال منه ظل مسانداً بوصف الكلمة هي طلقة الوعي من خلال التحريض والتعبئة الفكرية والاستشراف والتنبؤ، وأصبح معادلاً موضوعياً للتفاؤل الثوري واجتراح البطولة عبر استحضار رموز تراثية وأسطورية وتاريخية، حيث أن الخطاب الشعري للشعراء والمبدعين الفلسطينيين في سورية اتسم برأي هلال بأبعاد تجاوزت الاستثارة العاطفية إلى ما يجعل من القضية حضوراً في الوعي الفردي والجمعي، وليس أدل على ذلك سوى ما ذهب إليه الشاعر الراحل يوسف الخطيب من التبشير بالنصر من جوف الظلام، واستعجال طلوع الصباح، وجعل الشهادة حياة جديدة، وكل ذلك تجلى في قصائده الهادرة بقوة جرسها وعمق إلهامها، وكذلك الشاعر خالد أبو خالد الشاعر الفدائي والمقاوم الذي دعا إلى ضرورة المقاومة بوصفها استعادة للحياة وللوعي وللتاريخ والذاكرة من خلال ما قدمه في “العوديسا الفلسطينية ” مشيراُ هلال كذلك إلى الشعراء صالح هواري ومحمود حامد ومحمود علي السعيد، وغيرهم من الذين لم يبتعدوا عن تمثل هذه الرؤيا، مؤكداً أن حقيقة الدور الذي لعبه الشعراء الفلسطينيون في سورية من أجل المقاومة ذهاباً إلى ثقافتها وفكرها كان الأبرز في تمثلاته لخطاب المقاومة وجدواها وحتمية انتصارها والأقرب إلى النقش على جدارية العودة والحنين، منوهاً هلال إلى أن مفهوم المقاومة مفهوم واسع ويقتضي من الشاعر أن يستنهض الهمم حاملاً لخيمة التفاؤل الثوري الذي يولد وسط المأساة وأن يكون حافزاً لخلق بيئة المقاومة فكرياً وإبداعياً، فضلاً عن مفهوم الرسالة التي يضطلع بها الشعراء الفلسطينيون بثقافتهم وانتمائهم وجدلية وعيهم الوطني والقومي لتجاوز المعنى الضيق إلى المدى الذي تكون فيه المقاومة نشيد خلاص، وصولاً  للمعنى الذي يقول أن المقاومة حياة.

أدب المقاومة

وأشار الإعلامي عمر جمعة إلى أن الأغلب الأعمّ من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين ارتبطوا بالقضية التي تبنوها، أي مأساة شعبهم الذي تعرّض للاقتلاع من مدنه وبلداته وقراه وهامَ لاجئاً مشرداً في جهات الأرض كافة، ونشأ عن ذلك ما اصطُلح على تسميته بالأدب الملتزم أو أدب المقاومة، وكان من أبرز أعلامه غسان كنفاني وناجي العلي ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وسواهم، على أن بعض هؤلاء كغسان كنفاني حمل البندقية وكانت مرافقة للقلم والريشة والسطر الذي يؤكد الانتماء الحقيقي للوطن، ومن هؤلاء أيضاً الشاعر خالد أبو خالد الذي قاد مجموعات الفدائيين من فلسطين إلى الأردن فسورية ولبنان، وكذلك الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم الذي قاتل إلى جانب المقاومة الفلسطينية في لبنان، وكذا الحال مع الشاعر راشد حسين والقاص والإعلامي الشهيد ماجد أبو شرار وفنان الكاريكاتور ناجي العلي، وقبلهم جميعاً الشاعر عبد الرحيم محمود صاحب القصيدة الشهيرة “سأحمل روحي على راحتي” مبيناً جمعة أن الصهاينة أدركوا أن فعل الكلمة والصورة يوازي فعل الرصاصة، فعمدت (إسرائيل) إلى اغتيال الكثير من الكتّاب والمبدعين والإعلاميين الفلسطينيين الذي فضحوا حقيقة وجرائم الاحتلال الغاصب, وليس آخرهم الشهيدة شيرين أبو عاقلة، واعتقال الكثير منهم وتعرّضهم لأحكام جائرة تعسفية تمتد لعشرات السنوات قد تصل إلى المؤبد، كما جرى مع الكتّاب وليد دقة وعبد الله البرغوثي وكميل أبو حنيش ووليد الهودلي الذين صدرت كتبهم ورواياتهم خارج زنازين وسجون الاحتلال لتفضح المعاملة الوحشية والكفاح المستمر لنيل الحرية وحكايات صمود المعتقلين، موضحاً جمعة أن عملية “طوفان الأقصى” تؤكد اليوم حقيقة هذا الكيان الهمجي، وتفضح ضعفه، وتنسف الغلالة التي يتستّر خلفها وجهه البشع وتثبت أن المعركة الفكرية بيننا وبين الصهاينة توازي ما يحدث الآن من مواجهات مسلحة في غزة وسواها من الأراضي الفلسطينية المحتلة.