هل هي لعبة تغيير القانون الدولي وقواعد الحرب؟ الغرب الجماعي يدعم جرائم الكيان الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
أوضح الصحفي البريطاني “جوناتان كوك”، المقيم في فلسطين المحتلة، أن “إسرائيل” لم تخف قط أنها تعاقب سكان غزة لأن المقاومة الفلسطينية تحكمهم، على اعتبار أنها ترفض حق “إسرائيل” في تجريد الفلسطينيين من وطنهم عام 1948 وسجنهم في سجون مكتظة مثل قطاع غزة. منذ أكثر من عقد من الزمان، بدأت “إسرائيل” تدرك أن حصار غزة قد يكون في مصلحتها، وبدأت في تحويل الجيب الساحلي الصغير من عبء ثقيل إلى محفظة قيمة في اللعبة التجارية لسياسات القوة الدولية. وذلك في تحليله الذي نشره موقع مجلة “أفريقيا-آسيا”. مضيفا أنه تم تحويل الشريط الصغير من الأرض على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى مزيج من أرض الاختبار والعرض، حيث تمكنت “إسرائيل” من استخدام غزة لتطوير كافة أنواع التقنيات والاستراتيجيات الجديدة المرتبطة بصناعات الأمن الداخلي المزدهرة في جميع أنحاء الغرب، مع تزايد قلق المسؤولين في تلك البلدان بشأن الاضطرابات الداخلية التي تؤثر على بلادهم، والتي تسمى أحياناً بالشعبوية.
إن الحصار الذي فرضته “إسرائيل” على 2.3 مليون فلسطيني في غزة عام 2007 بعد انتخاب حماس لإدارة شؤون القطاع، سمح بإجراء جميع أنواع التجارب: كيف يمكن احتواء السكان بشكل أفضل؟ ما هي القيود التي يمكن وضعها على نظامهم الغذائي وأسلوب حياتهم؟ كيفية تجنيد شبكات المخبرين والمتعاونين عن بعد؟ ما هو تأثير عزل السكان والتفجيرات المتكررة على العلاقات الاجتماعية والسياسية؟ وأخيرا، كيف يمكن إبقاء سكان غزة خاضعين ومنع الانتفاضة؟
العقاب الجماعي
مع تزايد القلق إزاء علامات الاضطرابات الشعبية في الداخل، بدأت الدول الغربية في التفكير بعناية أكبر في كيفية التحايل على القيود المفروضة عليها بموجب القانون الدولي. يشير المصطلح إلى مجموعة من القوانين التي تم صياغتها رسمياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما عامل الجانبان المتحاربان المدنيين على الجانب الآخر من خطوط المعركة كمجرد بيادق على رقعة الشطرنج. وكان هدف واضعي القانون الدولي هو جعل تكرار الفظائع النازية في أوروبا أمراً غير مقبول، فضلاً عن الجرائم الأخرى مثل قصف بريطانيا للمدن الألمانية مثل دريسدن أو إلقاء الولايات المتحدة قنابل ذرية على هيروشيما وناغازاكي. إن أحد أسس القانون الدولي، في قلب اتفاقيات جنيف، هو حظر العقاب الجماعي، أي الأعمال الانتقامية ضد السكان المدنيين للعدو، لجعلهم يدفعون ثمن أفعال حكوماتهم وجيوشهم، ومن الواضح أن غزة تشكل الانتهاك الأكثر فظاعة لهذا الحظر. وحتى في الأوقات “الهادئة”، فإن سكانها -بما في ذلك مليون طفل -محرومون من أبسط الحريات الأساسية، مثل الحق في التنقل، والحصول على الرعاية الصحية المناسبة لأن الأدوية والمعدات لا يمكن نقلها، والحصول على مياه الشرب النظيفة واستخدامها، إضافة إلى انقطاع الكهرباء لجزء كبير من اليوم بسبب استمرار “إسرائيل” في قصف محطة توليد الكهرباء في غزة.
إن ما تفعله “إسرائيل” في غزة هو في حد ذاته تعريف للعقاب الجماعي الذي يشكل جريمة حرب: 24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع، 52 أسبوعاً في السنة، لمدة 16 عاماً. ومع ذلك، يبدو أن لا أحد ممن يسمون أنفسهم بالمجتمع الدولي يلاحظ ذلك، أي إعادة كتابة قواعد الحرب ولكن الموقف القانوني الأكثر حساسية، بالنسبة “لإسرائيل” والغرب هو عندما تقصف “إسرائيل” غزة، كما تفعل الآن، أو عندما تجتاح القطاع براً، وفق تهديدها. وقد سلط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الضوء على المشكلة عندما قال لسكان غزة: “ارحلوا الآن”، ولكن كما يعلم هو والزعماء الغربيون، فإن سكان غزة ليس لديهم مكان يذهبون إليه، ولا مكان يهربون إليه من القنابل. ومن ثم فإن أي هجوم إسرائيلي يكون، بحكم تعريفه، موجهاً ضد السكان المدنيين، يكون هو المعادل الحديث لقصف مدينة دريسدن. وقد عملت “إسرائيل” على تطوير استراتيجيات للتغلب على هذه الصعوبة منذ أول عدوان كبير لها على غزة في أواخر عام 2008، بعد فرض الحصار.
وبحسب كوك فقد تم تكليف وحدة من مكتب المدعي العام بإيجاد طرق لإعادة كتابة قواعد الحرب لصالح “إسرائيل “، في ذلك الوقت، كانت هذه الوحدة تخشى أن تتعرض “إسرائيل” لانتقادات بسبب قصف حفل تخرج لطلاب الشرطة في غزة، مما أسفر عن استشهاد العديد من الطلاب الشباب. وبموجب القانون الدولي، فإن ضباط الشرطة هم مدنيون وليسوا جنوداً، وبالتالي فهم ليسوا هدفاً مشروعاً. كما أعرب المحامون الإسرائيليون عن قلقهم من قيام “إسرائيل” بتدمير المكاتب الحكومية، والبنية التحتية للإدارة المدنية في غزة. ويبدو أن مخاوف “إسرائيل” أصبحت الآن عتيقة الطراز، وهو ما يظهر إلى أي مدى غيرت “إسرائيل” مسارها بالفعل عندما يتعلق الأمر بالقانون الدولي. لبعض الوقت كان أي شخص مرتبط بالمقاومة ولو بشكل غير مباشر، يعتبر هدفاً مشروعاً، ليس فقط من جانب “إسرائيل”، بل من جانب جميع الحكومات الغربية أيضاً متجاهلين أنها حكومة يؤدي أعضاؤها المهام المنوطة بهم.
أو كما قالت أورنا بن نفتالي، عميدة كلية الحقوق، لصحيفة “هآرتس” في عام 2009: “لقد تم خلق وضع يمكن فيه التعامل مع غالبية الرجال البالغين في غزة وأغلبية المباني كأهداف مشروعة، لقد تم بالفعل التشكيك في القانون”. وفي ذلك الوقت، شرح ديفيد رايزنر، الذي كان يرأس الوحدة، فلسفة “إسرائيل” لصحيفة “هآرتس”: “ما نشهده اليوم هو مراجعة للقانون الدولي، إذا قمت بشيء لفترة كافية، فإن العالم سوف يقبله”.
القانون الدولي
يرتكز القانون الدولي برمته الآن على فكرة أن الفعل المحظور اليوم يصبح مرخصاً إذا تم تنفيذه من قبل عدد كاف من البلدان. وهنا يلفت كوك الانتباه إلى أن تدخل “إسرائيل” في تغيير القانون الدولي يعود إلى عقود مضت، والدليل على ذلك الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي الناشئ في عام 1981، وهو عمل من أعمال الحرب أدانه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حينها قال رايزنر: كانت الأجواء السائدة هي أن “إسرائيل” ارتكبت جريمة ضد الإنسانية. ولكن اليوم يقول الجميع أنه دفاع وقائي عن النفس، والقانون الدولي يتطور من خلال الانتهاكات . وأضاف أن فريقه زار الولايات المتحدة أربع مرات في عام 2001 لإقناع المسؤولين الأميركيين بتفسير “إسرائيل” المرن بشكل متزايد للقانون الدولي فيما يتعلق بإخضاع الفلسطينيين، مضيفاً أنه لولا هذه الرحلات الأربع إلى الولايات المتحدة، لما كنا سنتمكن من تطوير نظرية “الحرب على الإرهاب” على هذا النطاق اليوم. لقد أثبتت إعادة تعريف قواعد الحرب هذه قيمتها عندما اختارت الولايات المتحدة غزو واحتلال أفغانستان والعراق، بحسب رايزنر.
وأضاف كوك أنه في السنوات الأخيرة، واصلت “إسرائيل” تطوير القانون الدولي، وقد طرح مفهوم “الإنذار المسبق”، حيث كان يعلن أحياناً قبل دقائق قليلة عن تدمير مبنى أو حي، ويعتبر المدنيون الضعفاء الذين ما زالوا في المنطقة، مثل كبار السن والأطفال والمعاقين، أهدافاً مشروعة إذا لم يغادروا المنطقة في الوقت المناسب.
الدعم البريطاني “لإسرائيل”
وهكذا، تستغل السلطات الإسرائيلية الهجوم الحالي على غزة لإجراء المزيد من التغييرات في القواعد. ضمن هذا السياق، يشير مقال صحيفة “هآرتس” عام 2009 إلى يوآف غالانت، الذي كان آنذاك القائد العسكري المسؤول عن غزة، والذي وصفه المسؤولون عن إنفاذ القانون بأنه “رجل متوحش”، وقد وصفته الصحيفة بأنه “راعي بقر” لم يكن لديه وقت للتفاصيل القانونية. وغالانت هذا، هو الآن وزير الدفاع والمسؤول عن فرض “حصار كامل” على غزة: لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، ولا حتى مشافي وأدوية. وفي لغة تطمس أي تمييز بين المقاومة والمدنيين في غزة، وصف غالانت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”، ليدخل العقاب الجماعي مجالاً مختلفاً تماماً. ومن حيث القانون الدولي، فهي تقع على حدود منطقة الإبادة الجماعية، سواء من حيث الخطاب أو الموضوع، ولكن الوضع تغير إلى الحد الذي جعل حتى الساسة الغربيين الوسطيين يهتفون “لإسرائيل”، وفي كثير من الأحيان من دون الدعوة إلى “ضبط النفس” أو “التهدئة”، وهي المصطلحات الغامضة التي يستخدمونها عادة لإخفاء دعمهم لخرق القانون، والدليل على ذلك، ما قاله كير ستارمر، زعيم المعارضة العمالية والرجل الذي يكاد يكون من المؤكد أنه سيكون رئيس وزراء بريطانيا المقبل، حيث أعلن عن تأييده ودعمه “للحصار الكامل” على غزة، ولم يعتبره جريمة ضد الإنسانية، بل اعتبره على أنه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. لم يفشل ستارمر في فهم العواقب القانونية المترتبة على تصرفات “إسرائيل”، حتى لو بدا شخصياً محصناً ضد العواقب الأخلاقية، وهو الذي تدرب كمحامي متخصص في حقوق الإنسان، لم يبد أي تعاطف مع الفلسطينيين في غزة. وتأكيداً على أن حزب العمال يتغاضى الآن عن جرائم الحرب التي ترتكبها “إسرائيل”، فإن المدعية العامة في الظل، إميلي ثورنبيري، تلتزم بنفس الموقف العدائي غير المبرر، حيث تجنبت الرد على سؤال “بي بي سي” ما إذا كان قطع الكهرباء والإمدادات عن غزة يتماشى مع القانون الدولي. وليس من قبيل الصدفة أن يتناقض موقف ستارمر كثيراً مع موقف سلفه جيريمي كوربين، الذي تم طرده من الحزب بسبب اتهامه بشن حملة تشويه متواصلة معادية للسامية قام بها أكثر مؤيدي “إسرائيل” حماسة في المملكة المتحدة. كما أعرب غرانت شابس، وزير الدفاع البريطاني، عن دعمه الثابت لسياسة “إسرائيل” المتمثلة في تجويع مليوني فلسطيني في غزة. أما ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، فقد وضع العلم الإسرائيلي على واجهة مقر إقامته الرسمي، في داونينغ ستريت، بمعنى أن “إسرائيل” تسيطر على الشؤون الخارجية للمملكة المتحدة.
ومهما كان حجم هذا الدعم الجماعي لـ “إسرائيل”، فإن المعنى الضمني واضح: تدعم بريطانيا “إسرائيل” في الوقت الذي بدأت فيه حملتها الانتقامية على جرائم الحرب في غزة، كما تهدف نصيحة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان للشرطة إلى التعامل مع التلويح بالأعلام الفلسطينية والهتافات التي تنادي بتحرير فلسطين خلال مظاهرات الدعم في قطاع غزة على أنها أعمال إجرامية. وبالطبع، الإعلام يلعب دوره، كما هو الحال دائماً، حيث طارد طاقم القناة الرابعة كوربين في شوارع لندن هذا الأسبوع، مطالبين إياه بـ”إدانة” المقاومة الفلسطينية، وألمحوا، من خلال صياغة هذه المطالب، إلى أن أي شيء أبعد من ذلك، مثلما تؤكد مخاوف كوربين الإضافية بشأن رفاهية المدنيين في غزة، معاداة زعيم حزب العمال السابق للسامية. والمغزى الواضح من ساسة المؤسسة ووسائل الإعلام هو أن أي دعم للحقوق الفلسطينية، أو أي تحدي “لحق إسرائيل الذي لا جدال فيه” في ارتكاب جرائم حرب، يرقى إلى معاداة السامية.
نفاق أوروبا المقزز
هذا النهج المزدوج المتمثل في تشجيع سياسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية تجاه غزة مع خنق المعارضة أو وصفها بمعاداة السامية لا يقتصر على المملكة المتحدة، بل ينسحب على جميع أنحاء أوروبا، من بوابة براندنبورغ في برلين إلى برج إيفل في باريس إلى البرلمان البلغاري، حيث تمت إضاءة المباني الرسمية بالعلم الإسرائيلي. فيما أعربت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، عن سعادتها برؤية العلم الإسرائيلي يرفرف في أعلى مبنى البرلمان الأوروبي. كما أعلنت مراراً وتكراراً أن “أوروبا تقف إلى جانب إسرائيل”، حتى مع بدء جرائم الحرب الإسرائيلية في التراكم. حيث أفادت جماعات حقوق الإنسان أن “إسرائيل” أطلقت الفوسفور الأبيض، وهو سلاح كيميائي حارق، على غزة، وهو ما يشكل جريمة حرب عند استخدامه في المناطق الحضرية. فيما قالت الحركة الدولية للدفاع عن الأطفال إن أكثر من 500 طفل فلسطيني قتلوا بسبب القنابل الإسرائيلية حتى الآن. والأمر متروك لفرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي المحتلة، للإشارة إلى أن السيدة فون دير لاين تطبق مبادئ القانون الدولي بطريقة غير متسقة تماماً، فقبل عام تقريباً، أدانت رئيس المفوضية الأوروبية الضربات الروسية على البنية التحتية المدنية في أوكرانيا باعتبارها جرائم حرب، فلماذا لم تقل نفس الكلام عما هو عمل إرهابي خالص عن الهجمات الإسرائيلية الأكثر خطورة على البنية التحتية الفلسطينية؟
إرسال قوات ثقيلة
وفي هذه الأثناء، بدأت فرنسا بالفعل في تفريق وحظر الاحتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي على غزة. وردد وزير العدل في حكومته كلام برافرمان الذي أشار إلى أن التضامن مع الفلسطينيين يهدد بالإساءة إلى المجتمعات اليهودية، ويجب التعامل معه على أنه “خطاب كراهية”. ومن المعلوم أن واشنطن تقدم دعماً لا متناهياً ولا يتزعزع لإسرائيل مهما كان قرارها بشأن غزة، كما أوضح وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال زيارته. بينما وعد بايدن بالمزيد من الأسلحة والأموال، وأرسل المعادل العسكري لـ “البنادق الكبيرة” لضمان عدم إزعاج إسرائيل أثناء ارتكابها جرائم الحرب هذه.
وحتى المسؤولون الذين يتمثل دورهم الأساسي في تعزيز القانون الدولي، مثل أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، بدأوا في التكيف مع الوضع المتغير، ومثل معظم المسؤولين الغربيين، أكد على “الاحتياجات الإنسانية” لغزة، بينما تجنب الحديث عن قواعد الحرب التي يتعين على “إسرائيل” احترامها. ويبدو أن المسؤولين الغربيين راضون عن الاتجاه المتخذ، ليس فقط من أجل “إسرائيل”، بل من أجلهم أيضاً لأنه في يوم من الأيام، يمكن لمواطنيهم أن يطرحوا عليهم الكثير من المشاكل التي يطرحها الفلسطينيون في غزة على “إسرائيل” اليوم، لأن دعم ما يعتبرونه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، يشكل بالنسبة لهم نوعاً من الاستثمار.