مجلة البعث الأسبوعية

سقط القناع.. الملك تشارلز يدعم “الكيان”.. القوة الحقيقية ليست في واشنطن بل في لندن وتحديداً قصر باكنغهام

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

يرى مراقبون أن القوة الحقيقية لوقف مساعي “إسرائيل” الأخيرة التي تهدف لتحقيق المهمة التأسيسية للصهيونية وهي الإبادة الجماعي، قد لا تكمن في واشنطن العاصمة بل في لندن، وتحديداً في قصر باكنغهام

منذ بدء الاعتداءات “الإسرائيلية” التي تشكل إبادة  جماعية على غزة، كان تخلي النظام الملكي البريطاني عن إدعاءاته “بالحياد السياسي”  واحداً من التطورات الأكثر استثنائية في هذه المرحلة.

فعلى الرغم من امتناع الملكة إليزابيث الثانية، علناً على الأقل، عن التعليق على الشؤون الجارية أو تورية انحيازها إلى “جانب” معين بشأن أي قضية طوال فترة حكمها التي دامت 70 عاماً، فإن وريثها الذي تم تتويجه مؤخراً قد حوَل تلك الاتفاقية إلى رماد بشكل شامل.

وفي غضون ساعات من بدء عملية طوفان الأقصى، أدان الملك تشارلز فصائل المقاومة الفلسطينية بشدة، قائلاً إنه يشعر بحزن عميق وفزع إزاء الأهوال التي ارتكبتها هذه الجماعة وأعمالها “الإرهابية الهمجية”. وللإشارة فإن أغلبية البلدان لا تتفق على أن حماس جماعة إرهابية، وحتى هيئة الإذاعة البريطانية – التي عملت بلا هوادة على تصنيع الإذعان للإبادة الجماعية في غزة منذ اندلاع أعمال العنف _ ترفض استخدام هذا التصنيف المسيس.

جدير بالإشارة، أن الأمير تشارلز خلال فترة حكمه الطويلة كأمير لويلز، كان متطفلاً على السياسة الداخلية والخارجية للحكومة البريطانية بطرق كانت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن سلطته التقديرية، ومع ذلك، فقد ظل صامتاً إلى حد كبير منذ أن أصبح ملكاً في أيلول 2022، وبالتالي، فإن تصريحاته العلنية على غاية من الأهمية، خاصة إنها تمثل مجرد جزء بسيط من تدخل أكبر بكثير.

ادعت صحيفة “ديلي تلغراف” أن الملك تشارلز من وراء الكواليس، يدفع من أجل السلام في الشرق الأوسط باستخدام “القوة الناعمة”، وهو ادعاء لا أساس له من الصحة، فقد ازدادت وحشية الهجوم الإجرامي الذي تشنه “إسرائيل” على غزة، وأصبحت حصيلة الشهداء ترتفع يومياً لتصل المئات مع تدمير البنية التحتية المدنية بالأرض بسبب الهجوم الجوي الذي لا هوادة فيه.

لذا، فمن المنطقي أن يتساءل المرء عما إذا كانت رؤية تشارلز “للسلام” في غزة تمثل تطهير فلسطين بالكامل من الفلسطينيين، وما إذا كان قد شجع بأي شكل من الأشكال حكومة نتنياهو في محاولتها الجديدة لإعادة إحياء النكبة.

من الواضح أن الملك يدعم بشكل كامل الصهيونية والإبادة الجماعية التي تروج لها هذه الأيديولوجية، كما أن الجيش البريطاني ووكالات الاستخبارات والحكومة البريطانية جميعها تعمل وفقاً لأوامره ورغباته.

على الرغم من عدم زيارة الملكة إليزابيث الثانية للأراضي المحتلة قط، خوفاً من المقاطعة العربية للسلع البريطانية وحظر النفط، الأمر الذي أدى إلى شلل الاقتصاد البريطاني في أواخر عام 1973، لكن مع تولي تشارلز مسؤوليات زيارتها الخارجية الرسمية كانت “إسرائيل” من أوائل الأماكن التي قصدها.

أشادت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” به ووصفته بالصديق الذي يتمتع بعلاقات خاصة وتاريخية مع “إسرائيل”، وكانت إحدى هذه الروابط هي الصداقة طويلة الأمد والوثيقة مع جوناثان ساكس الذي شغل منصب الحاخام الأكبر لجمعية “النداء اليهودي الإسرائيلي المتحد”، وعند وفاته في تشرين الثاني 2020، أشاد به تشارلز ووصفه بأنه قائد لا مثيل له في الحكمة والعلم والإنسانية.

مضيفاً: لقد سمعت بحزن شخصي شديد نبأ وفاة الحاخام اللورد ساكس، وبرحيله فقدت الجالية اليهودية وأمتنا والعالم أجمع قائداً لم تكن حكمته وعلمه وإنسانيته لها مثيل.

ومن الجدير بالذكر أن جمعية “النداء اليهودي الإسرائيلي المتحد” هي إحدى المؤسسات الوطنية الثلاث في “إسرائيل” وتدير عدداً من البرامج لتدريب اليهود في جميع أنحاء العالم لتعزيز المصالح الصهيونية بدءاً من المدارس الابتدائية.

إلى ذلك، كان  الحاخام ساكس من أشد المؤيدين لجهود حكومية “إسرائيلية” مماثلة، تُعرف باسم “حق الميلاد”، والتي بموجبها يُمنح أي شخص في أي مكان في العالم ممن تراوحت أعمارهم بين 18 و26 عاماً ويمكنه إثبات إلمامهم  بالتراث اليهودي، رحلة مدفوعة التكاليف بالكامل إلى “إسرائيل” ليقف في صفوف قوات الاحتلال مع الدعاية الصهيونية، وتعزيز العلاقة الشخصية مع البلاد.

على الرغم من أن هذه النظرية مثيرة للجدل إلى حد كبير، فقد اعتبر ساكس أن حق الميلاد ربما يكون أعظم ابتكار منفرد في الحياة اليهودية في ربع القرن الماضي لتعزيز روابط الحاضر بالأرض والدولة وشعب “إسرائيل” بحسب زعمه، هذا وقد  امتدت محاولاته من تلقين الأطفال عقيدة الصهيونية إلى العمل في مجلس إدارة مجموعة “ون فويس”، وهي مجموعة ضغط مناهضة لمقاطعة “إسرائيل” وتستهدف المدارس.

خادم مطيع

السؤال الذي يبقى مطروحاً هنا هو ما إذا كان تقارب الملك “لإسرائيل” سبباً في تخلي الحكومة البريطانية عن تعاطفها مع العالم العربي والتكيف مع الصهيونية في العصر الحديث،  حيث تدعي وسائل الإعلام الرئيسية عالمياً بأن سلطات الملكية البريطانية في القرن الحادي والعشرين احتفالية بحتة، في حين أن المصطلحات الكاذبة لحكومة جلالته يمكن استخدامها بحرية وأن الأيام التي كان بوسع الملك أو الملكة أن يبطل فيها إرادة البرلمان قد ولت منذ زمن طويل.

في الواقع، إن الإجراء غير المعروف على نطاق واسع والمعروف باسم “موافقة الملكة” يعني أن على الحكومة البريطانية السعي لموافقة الملك أو الملكة على القوانين المرتقبة قبل أن يتم طرحها للتصويت البرلماني، وبموجب هذه الاتفاقية، يتم تنبيه الملوك كلما صدر تشريع يمكن أن يؤثر على الامتياز الملكي أو المصالح الخاصة للتاج البريطاني، ولا يؤدي هذا الشرط إلى تأثير سلبي واضح على جميع القوانين واللوائح التي تضعها الحكومات المنتخبة فحسب، بل إنه يغير تكوينها في كثير من الأحيان بطرق متنوعة.

على سبيل المثال، في شهر شباط 2021، تم الكشف عن أن الملكة إليزابيث الثانية ضغطت في سبعينيات القرن الماضي على وزراء الحكومة لتعديل تشريعات الشفافية لإخفاء ثروتها “الفاحشة” عن الجمهور، ونتيجة لذلك، تم إدراج بند يمنح الشركات التي يستخدمها “رؤساء الدول” إعفاءات عن الإفصاحات المالية.

وللإشارة، فإن موافقة الملكة ليست الآلية الوحيدة للسيطرة السياسية في ترسانة العائلة المالكة البريطانية، ففي أيار 2015، نُشرت أكثر من عشرين رسالة خاصة بين الأمير تشارلز آنذاك ووزراء بريطانيين بعد صراع قانوني دام عقداً من الزمن، حيث أهدرت الحكومات المتعاقبة مئات الآلاف من الجنيهات للحفاظ على سرية هذه الرسائل. وأظهرت المحتويات أن تشارلز، في انتهاك صارخ لـ “الحياد السياسي”، قدم التماسات بشكل روتيني إلى الممثلين المنتخبين حول مواضيع تتراوح بين حرب العراق والأدوية البديلة على مدى سنوات عديدة.

إن تواطؤ الملوك البريطانيين محمي أيضاً بموجب القانون في جميع أنحاء الكومنولث، ففي عام 2020، بعد معركة قانونية استمرت أربع سنوات، نشرت الحكومة الأسترالية مراسلات تكشف الدور الفعال الذي لعبته الملكة إليزابيث الثانية في الإطاحة برئيس وزراءها غوف ويتلام، في شهر تشرين الثاني 1975. وأظهرت الأوراق أن الأمير تشارلز كان أحد المتآمرين الأساسيين في الانقلاب وفي إقالة رئيس الوزراء، حيث كان ينسق بشكل مباشر مع الحاكم العام الأسترالي، السير جون كير، الذي يمثل العرش البريطاني، قبل الانقلاب وأثناءه.

وبعد ستة أشهر، كتب الملك المنتظر إلى كير: “أردتك أن تعلم أنني أقدر ما تفعله وأنني معجب بشدة بالطريقة التي تؤدي بها واجباتك العديدة والمتنوعة، إن ما فعلته العام الماضي كان صحيحاً وكان من الشجاعة القيام به”.

في تشرين الأول  2021، نشر المؤرخان ريتشارد آلدريتش وروري كورماك كتاب بعنوان  “الأسرار الملكية”، وهو نص تاريخي يتتبع علاقة عائلة وندسور بالاستخبارات البريطانية على مدى قرون، ويشير المؤلفان في مقدمة الكتاب إلى صعوبة الكتابة عن الأسرة المالكة، ووفقاً لهما، الكتابة عن الجواسيس أمر صعب، لكن الكتابة عن أفراد العائلة المالكة أكثر صعوبة؛ والكتابة عن الجواسيس وأفراد العائلة المالكة بدت مستحيلة في بعض الأحيان.

ومع ذلك، قام المؤلفان بتجميع التاريخ المثير للعلاقة الدائمة والحميمية بين النظام الملكي البريطاني والاستخبارات، وقد سجلا كيف افتتح عهد الملكة إليزابيث الأولى العصر الذهبي للتجسس في أوروبا مع نشوء الإمبراطورية البريطانية، بينما كانت تتعقب ولادة وكالات التجسس الحديثة في لندن في إطار الجهود المبذولة لمنع اغتيال الملكة فيكتوريا.

لا يسع المرء سوى تصور ما قد يكتشفه الباحثون المستقبليون حول علاقة الملك تشارلز مع الاستخبارات البريطانية الداخلية وغيرها من أجهزة الاستخبارات، ومع ذلك، فإن ما هو موجود في النطاق العام مثير للقلق للغاية، فقد كان تشارلز بصفته أمير ويلز، راعياً رسمياً للاستخبارات البريطانية، وكان صندوقه الخيري الشخصي يقوم بشكل روتيني بتحويل مبالغ ضخمة إلى وكالة تجسس الإشارات سيئة السمعة “وكالة الاتصالات الحكومية البريطانية”.

في كانون الثاني، زار الملك تشارلز المقر السري لوكالة الاتصالات الحكومية البريطانية في مانشستر، حيث التقى بفرق من مختلف أنحاء الوكالة، بما في ذلك مديرها والخريجين الشباب من برنامج التدريب المهني التابع للوكالة، وبالإضافة إلى تلقيه “عدة” إحاطات شخصية من جواسيس رفيعي “المستوى”، فقد تطفل على فصل مدرسة ابتدائية محلية كان موجوداً في الموقع في ذلك اليوم، وشارك في “درس خاص”.

لسنوات عديدة، قامت مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية ــ وهي أكبر وكالة تجسس بريطانية وأفضلها تمويلاً ــ بإدارة برامج مخصصة للتسلل إلى المدارس، والدعاية للشباب البريطاني وإعدادهم ليصبحوا محاربين وطنيين عبر الإنترنت في المستقبل، وتحديد ومراقبة مثيري الشغب المحتملين في الفصول الدراسية.

لم تكن زيارة كانون الثاني هي المرة الأولى التي يظهر فيها الملك تشارلز بشكل مركزي في هذه الأنشطة، فقد وكان ضيف الشرف الذكرى المئوية لوكالة الاتصالات الحكومية البريطانية في عام 2019، إلى جانب العديد من أطفال المدارس الابتدائية.

بعد لقاء المعلمين والطلاب، ذهب الأمير في جولة للتعرف على بعض الأعمال الأكثر سرية التي يقوم بها المركز الوطني للأمن السيبراني ووكالة الاتصالات الحكومية البريطانية.

إن ارتباط  الملك تشارلز العلني بجهود وكالة الاتصالات الحكومية البريطانية في رعاية الأطفال يميل إلى الإشارة إلى أن هذا العمل الشرير يتم تنفيذه بناءً على طلب جلالة الملك، أو على الأقل بمباركة صريحة من الملك. إن توجيه سياسة الحكومة البريطانية وإجراءاتها والتأثير عليها بشكل فعال، بحكم التعريف، يتطلب عيناً لا تطرف، مدربة على التطورات العامة وخلف الأبواب المغلقة في جميع أنحاء العالم. الملك، بحكم تعريفه، لديه مصلحة كبيرة في ضمان أن تكون الأجيال القادمة من الجواسيس على مستوى المهمة.

تم تقديم مثال واضح على البصيرة المذهلة للجواسيس البريطانيين في 8 تشرين الأول 2023، عندما نشر المراسل المخضرم روبرت بيستون منشوراً ملفتاً على موقع” إكس”، فقد أبلغته “مصادر حكومية واستخباراتية” أن هجوم المقاومة على “إسرائيل” من المرجح أن يتطور إلى حرب شاملة في غرب آسيا، وحذرت مصادر بيستون الغامضة أيضاً من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن لا يريد ولن يكون قادراً على استخدام حق النقض ضد انتقام كبير من نتنياهو ضد الفلسطينيين، وتنبأ الصحفي على النحو الواجب: “هناك خطر من حدوث انتشار هذه الأزمة إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط بسبب علاقات بوتين مع إيران، ومخاوف الغرب العميقة بشأن طموحات إيران النووية، والصراع بين الصين وأميركا على السلطة، نحن في المراحل الأولى من صراع له تداعيات على معظم أنحاء العالم”.

بالنسبة لبيستون، كان اختراق المؤسسة المترابطة فيما بينها بشكل جيد، من مستوى معين لنقل هذه الكلمات أمراً مهماً للغاية، ويأتي توقيت هذا التدخل بعد يوم واحد فقط من عملية طوفان الأقصى. كان الجواسيس البريطانيون على يقين من أن عملية طوفان الأقصى ستؤدي حتماً إلى شيء أعظم وأخطر بكثير، وشعروا أنه من الضروري البدء فوراً في وضع الأسس العامة لهذا الاحتمال الوشيك، وبعد خمسة أيام، تم إرسال وحدات من البحرية الملكية والقوات الخاصة البريطانية إلى البحر الأبيض المتوسط لدعم” تل أبيب” ومراقبة التطورات المحلية عن كثب.

بحسب مراقبين فإنه، بالرغم من فشل الهجوم البري الإسرائيلي على غزة الذي هددت به منذ فترة طويلة اعتباراً من 29 تشرين الأول، فإن الهجوم الجوي المدمر على الفلسطينيين الذي تم شنه منذ ذلك الحين، إلى جانب الغارات الجوية المتعددة على دول الجوار، يعني أن المسرح مهيأ بشكل حاسم لـ “صراع ستكون له تداعيات على الكثير من دول من العالم”،  تماماً كما حذرت مصادر بيستون.

وفي العديد من المظاهرات التي لا تعد ولا تحصى في جميع أنحاء العالم دعماً للفلسطينيين، رفع المتظاهرون لافتات عالية تناشد الرئيس الأمريكي فرض وقف لإطلاق النار في غزة، قد يبدو أن توجيه هذه المناشدات بشكل خاطئ، فالقوة الحقيقية لوقف مساعي “إسرائيل” الأخيرة لتحقيق مهمة الإبادة الجماعية التأسيسية للصهيونية قد لا تكمن في واشنطن العاصمة، بل في لندن، وتحديداً قصر باكنغهام.