سورية وروسيا.. ديناميكيات التجارة والاستثمار
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
تشهد ديناميكيات التجارة والاستثمار بين روسيا وسورية مع الانتقال من عام 2023 إلى عام 2024، تحولاً كبيراً، حيث تتجه روسيا، التي تواجه عقوبات غربية مستمرة، نحو تعزيز علاقاتها التجارية في الشرق الأوسط، مع بروز سورية كشريك رئيسي. فبالنسبة لسورية، التي تعاني من سنوات من الحرب الإرهابية والعقوبات الغربية، فإن الاستثمار والتجارة الروسية يشكلان شريانين حياة حيويين.
بالنسبة لروسيا، لا تعد سورية وجهة تصدير مهمة فحسب، بل تعد أيضاً حليفاً استراتيجياً في إستراتيجيتها الأوسع في الشرق الأوسط، إذ تشير الأرقام التجارية المتنامية والمشاريع الاستثمارية، خاصةً في البنية التحتية والطاقة، إلى تعزيز التحالف الاقتصادي . ويأتي هذا الاصطفاف على خلفية عمليات إعادة التنظيم العالمية، حيث تتطلع روسيا بنشاط إلى تعزيز وجودها الاقتصادي في مناطق بعيدة عن متناول النفوذ الغربي المباشر.
السياق التاريخي وتطور العلاقات الثنائية
تأسست العلاقات بين البلدين في عام 1944، وتطورت من خلال المصالح الإستراتيجية المتبادلة. ولطالما نظرت روسيا، التي ورثت شراكة الاتحاد السوفييتي مع سورية، إلى علاقتها مع دمشق باعتبارها حجر الزاوية في سياستها في الشرق الأوسط . في البداية، كانت العلاقة بينهما متجذرة في دعم الاتحاد السوفييتي لاستقلال سورية عن الحكم الفرنسي، ثم توسعت خلال الحرب الباردة. تجلى استثمار الاتحاد السوفييتي في سورية من خلال المساعدات العسكرية والاقتصادية والفنية، مما ساعد على تعزيز موقف الحكومة السورية على الصعيدين المحلي والإقليمي.
خلال الحرب الباردة، اتسمت هذه العلاقة بصفقات عسكرية، والتدريب العسكري، والمساعدات الاقتصادية، والتي كانت محورية في ترسيخ سورية كحليف رئيسي للاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط. لقد ساهم الدعم السوفييتي في الحشد العسكري السوري وقدرته على ممارسة نفوذه داخل العالم العربي . وشهدت هذه الفترة أيضاً تبادلات ثقافية وتعليمية، حيث درس العديد من السوريين في الاتحاد السوفييتي، مما أدى إلى تعزيز كادر من السوريين يتمتع بفهم عميق وانجذاب نحو المجتمع والسياسة السوفييتية. وكانت اللحظة المحورية هي إنشاء قاعدة بحرية سوفيتية في طرطوس عام 1971، مما يؤكد التحالف العسكري الاستراتيجي بين البلدين . وقد تم تعزيز ذلك بشكل أكبر من خلال معاهدة الصداقة والتعاون لعام 1980، والتي تظل أساس العلاقات الثنائية حتى يومنا هذا، مما يسهل التعاون العسكري وكذلك الحوار السياسي حول القضايا الدولية.
لقد كان وقوف روسيا إلى جانب سورية في الحرب الإرهابية التي تعرضت لها عام 2015 عامل حاسم في ترجيح كفة ميزان الحرب لصالح الحكومة السورية. وكان الدعم العسكري الروسي عنصراً أساسياً في تعزيز تحالفهما الثنائي، كما سمح لروسيا بالحفاظ على موطئ قدمها الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
ديناميكيات التجارة والاستثمار الحالية
بعد نموها ثلاثة أضعاف في عام 2021، نمت أحجام التجارة بنسبة 7% إضافية في عام 2022. وأكد ألكسندر يفيموف، السفير الروسي في سورية، على هذا النمو، مما يشير إلى تكثيف العلاقات الاقتصادية على الرغم من الضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية، حيث بلغت قيمة صادرات روسيا إلى سورية 594.44 مليون دولار خلال عام 2021. وعلى الرغم من عدم توفر معلومات مفصلة لعام 2022، إلا أن عناصر التصدير الرئيسية إلى سورية في السنوات السابقة شملت القمح والصلب والحديد وزيوت البذور والمركبات الصناعية ومضخات الهواء والمنتجات الصيدلانية، الخشب المنشور والمنتجات المطبوعة والأدوات البصرية والمعدات الصناعية والإلكترونية من بين مجموعة من العناصر الأخرى ذات الحجم الأقل . من جانب سورية، شملت الصادرات الرئيسية للبلاد المعادن والمواد الكيميائية وفوسفات الكالسيوم الطبيعي والزيتون والقطن والمكسرات والبذور والتوابل والخضروات والفواكه والتوت. وخلال السنوات الماضية، كانت هناك مشاريع واسعة النطاق، لا سيما في البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك إعادة إعمار ميناء طرطوس، وتحديث مصنع لإنتاج الأسمدة في حمص، وترميم العديد من حقول النفط والغاز ومؤسسات المعالجة. وتجلت العلاقة المزدهرة بين روسيا وسورية بشكل أكبر من خلال الاجتماع الذي جرى بين الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في آذار عام 2023، مما يدل على التحرك نحو مرحلة جديدة في العلاقات الاقتصادية.
وكانت روسيا قد خصصت 40 مشروعاً استثمارياً آخر داخل سورية، تستهدف القطاعات المحورية لإعادة إعمار البلاد. وتشمل هذه القطاعات الطاقة، التي تشمل الكهرباء والنفط، والبنية التحتية للنقل، والإسكان، والتنمية الصناعية. وهذه المشاريع ليست مخصصة للاستثمار فحسب، بل ترافقها آليات المراقبة وضمان نجاح المبادرات.
وتشكل كل هذه الاستثمارات جزءاً من الأهداف الإستراتيجية الأوسع لروسيا على النحو المبين في مفهوم السياسة الخارجية لعام 2023، والذي يتضمن الاستفادة من علاقاتها داخل الشرق الأوسط لإنشاء شبكة اقتصادية موسعة. وتهدف هذه الإستراتيجية إلى التخفيف من آثار العقوبات الغربية من خلال تعزيز المرونة الاقتصادية والتنويع من خلال تعزيز التعاون الإقليمي. وضمن هذا الإطار وقعت روسيا وسورية في شهر تشرين الأول الماضي مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في القطاعين الدوائي والطبي. وسيركز هذا التعاون على تطوير وتصنيع وتوريد الأدوية والمنتجات الطبية. كما وستشمل الشراكة البحث العلمي المشترك للأدوية الجديدة، وتعزيز إمكانية الوصول إلى الأدوية، وتنفيذ مشاريع استثمارية مشتركة في تصنيع الأدوية.
وتؤكد وزارة الصحة الروسية أنه من المتوقع أن تؤدي هذه المذكرة إلى تعزيز العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون متبادل المنفعة وطويل الأمد والمستقر في مجال الرعاية الصحية. ومن المتوقع أن تزداد طبيعة تعامل روسيا مع سورية جنباً إلى جنب مع الفرص الناشئة عن جهود إعادة الإعمار واسعة النطاق في سورية. ووفقاً لتقديرات الأمم المتحدة فإن إعادة إعمار سورية ستستغرق من 10 إلى 15 عاماً وستتطلب ما لا يقل عن 400 مليار دولار، وسيفتح هذا المزيد من الفرص للاستثمار في قطاعات تشمل الطاقة والبنية التحتية وإعادة الإعمار.
إن العقوبات المفروضة على سورية، وخاصة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لها تأثير عميق على ديناميكيات التجارة والاستثمار بين البلدين. ويجسد قانون “قيصر” ضد سورية، الذي أقرته الولايات المتحدة في كانون الأول 2019، الإجراءات الصارمة التي تستهدف الاقتصاد السوري، حيث لا تحد هذه العقوبات من قدرة سورية على الانخراط في التجارة الدولية فحسب، بل تؤثر أيضاً على الشركات الروسية التي تمارس أعمالاً تجارية في سورية. من جهة أخرى فإن موقف الجامعة العربية بشأن سورية، فضلاً عن قرارات الدول الفردية بإعادة فتح سفاراتها في دمشق، يمكن أن يمهد الطريق لزيادة الاستثمار العربي في سورية.
وفي الختام يمكن القول إن دور روسيا النشط في إعادة إعمار سورية، وجهودها لإعادة الدمج في الشرق الأوسط، ومحورها نحو الشراكات الاقتصادية غير الغربية وسط العقوبات الغربية، هي مكونات لمخطط أكبر لتعزيز بصمتها التجارية العالمية. وسيكون رصد هذه الديناميكيات أمراً بالغ الأهمية، لأنها ستكون لها آثار كبيرة على الاستقرار الإقليمي، وتدفقات التجارة العالمية، والمشهد الجيوسياسي الأوسع.