مجلة البعث الأسبوعية

معركة القدس والمسجد الأقصى.. غزة خلقت يقيناً تاريخيّاً أن التحرير لن يكون إلا بالمقاومة

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

إنجاز تاريخي بكل معنى الكلمة، فقطاع غزة الصغير أجبر المحتل على الاستسلام في أقل من 50 يوماً…. فقط شعب ذو شخصية لا تقهر، شعب أسطوري حقاً، يمكنه أن ينتزع مثل هذا النصر من المحتل…

“طوفان الأقصى” هي خطة التحرير من الداخل، وللتاريخ فإن هذه الخطة بدأت مع الانتفاضة الأولى وتطورت كمّاً ونوعاً، وكانت عودة القيادات من الخارج بعد اتفاقات سلام قد ساعدت على توسيع المعركة.

ولكن ما كان الفلسطيني يظنّه نواة دولة محررة، تحول إلى سلطة تنسيق أمني، وأفرغ العودة من مضمونها، فكانت معارك غزة المتتالية تشير في كل مرة إلى أن التحرير لا بدَّ أن يكون بالنار لا بالتفاوض، وأن المعول فيه على الفلسطيني لا على نظام عربي أو مؤسسات سلام دولية مهما كان خطابها إنسانيّاً.

توقفت غزة عن انتظار هجوم صلاح الدين الشامل، وعوّلت على نفسها فصنعت سلاحها بصبر وشنّت حربها بقدراتها، وبقدر ما توفقت في معركتها طيلة 50 يوماً، بقدر ما خلقت يقيناً تاريخيّاً أن التحرير لن يكون إلا بيد فلسطينية، وهي بذلك تتجاوز صلاح الدين في شجاعته وفي حكمته العسكرية، وإن لم نرها تبارزه بهذا المعنى، لكن حقيقة الأرض تقول إن بعض الأنظمة العربية لن يكون لها شرف المشاركة في حرب تحرير فلسطين، بل على الكثير منها عار دعم المحتل بالمال والسلاح والموقف السياسي.

أما بعد… فقبل شهرين فقط، لم يكن أحد يستطيع أن يتنبأ بالزلزال الذي وقع في 7 تشرين الأول، والذي كان عملية عسكرية مذهلة أطلقها لواء غزة في أقل من ثلاث ساعات.  وبعد طوفان الحديد والنار الذي سقط على الشعب الفلسطيني المحاصر، وحرب الإبادة الحقيقية التي تقودها حكومة نتنياهو المتطرفة العاجزة اليائسة، المتلهفة إلى غسل هزيمتها بالدم، سقط القناع وظهر وجهها الحقيقي القميء. لقد انكشف الكيان الغاصب للعالم: تعطشه المرضي للدماء الذي لا يشبع، وحصاره الذي فرضه في القرون الوسطى على مياه الشرب والمواد الغذائية والكهرباء والوقود، واستهدافه المتعمد للمستشفيات والنساء والأطفال الذين قتلوا بالآلاف، وحتى الأطفال في الحاضنات الذين ماتوا اختناقاً بسبب وإغلاق حاضناتهم، كل هذا كان جزءاً من مشروع مفترض لجعل أراضي غزة غير صالحة للسكن، وترحيل أكثر من مليوني فلسطيني إلى صحراء سيناء.

من كان يتصور حدوث ذلك؟

في مواجهة مثل هذا السيناريو المأساوي، من كان يتصور أن المقاومة ستسقط العدو في أقل من شهرين؟ إن اتفاق تبادل الأسرى الذي تم التوصل إليه مؤخراً ليس أكثر ولا أقل مما اقترحته المقاومة منذ البداية: تبادل قاطع، الرجال بالرجال والنساء بالنساء والأطفال بالأطفال، أو تبادل كامل، جميع الأسرى الفلسطينيين مقابل جميع الأسرى الإسرائيليين.

إن شعب غزة، الذي تعرض لهجوم وحشي لا يصدق لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، دفع إلى حافة كارثة إنسانية خطيرة، تخلى عنها الجميع باستثناء محور المقاومة، ولا سيما المقاومة اللبنانية واليمن، والمقاومة العراقية، حيث تمكنت من الصمود والمحافظة على مسارها رغم المعاناة التي لا يمكن تصورها.

إنها “إسرائيل” مرة أخرى، “الأكثر هشاشة من شبكة العنكبوت” بحسب كلمات الأمين العام للمقاومة اللبنانية، حسن نصر الله الشهيرة أثناء تحرير جنوب لبنان عام 2000، التي اضطرت إلى الاستسلام والغرق في رمال غزة في مواجهة حرب المقاومة البطولية التي تمكنت حتى الآن من منعها من تحقيق أدنى إنجاز عسكري: الصواريخ استمرت في الوصول إلى تل أبيب وخارجها، ولا توجد منطقة في غزة آمنة لقوات الاحتلال التي تنزف دماً بسبب الهجمات المستمرة التي تقتل وتجرح المئات من جنود الاحتلال، والأرقام الرسمية للضحايا الإسرائيليين ليست سوى جزء بسيط من الواقع،  في حين لم يستهدف أي من كوادر المقاومة في الخطوط الأمامية أو حتى من الدرجة الثانية، وعاد سكان غزة الذين تم إجلاؤهم إلى الجنوب بشكل جماعي إلى الشمال، متحدين كل المخاطر.  وهذا إنجاز تاريخي حقاً، فقطاع غزة الصغير أجبر المحتل على الاستسلام في أقل من 50 يوماً، بينما استغرقت عملية تبادل الأسرى بين “إسرائيل” والمقاومة اللبنانية عامين في 2008، وأكثر من 5 سنوات لإطلاق سراح جلعاد شاليط في 2011 مقابل إطلاق سراح أكثر من 1000 أسير فلسطيني من سجون الاحتلال الإسرائيلي بمن فيهم يحيى السنوار، الزعيم الحالي لحركة المقاومة في غزة.

إذلال الكيان الصهيوني

لقد بلغ إذلال الكيان الإسرائيلي الذروة مع الهجوم الكبير الذي نفذته المقاومة ضد الداخل الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول، ولا يتعلق الأمر بنتنياهو فقط، بل الكيان الإسرائيلي برمته: الحكومة والجيش والمستوطنين، الذي أصبح أقرب من أي وقت مضى إلى الانهيار. وبينما وعد قادة الصهاينة بالقضاء على المقاومة، ها هم يستسلمون لكل رغباتها، وفوق كل شيء، لم يكن الأسرى الإسرائيليون محتجزين في جنوب غزة، بل في الشمال، حيث قصفهم واحتلهم ودمرهم الكيان المحتل، الذي كان يطارد سراب تحرير مواطنيه بالقوة والإكراه والانتهاكات وبالإرهاب الجماعي.

منذ عام 1948، كانت المجازر المتتالية التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي تهدف إلى دفع الشعب الفلسطيني إلى اليأس والانقسام والتخلي، لكنها لم تفعل سوى دفعه بشكل أكثر حزماً إلى طريق المقاومة المسلحة. وهكذا أثبتت المقاومة مرة أخرى صحة هذا الخيار في 7 تشرين الأول، وكذلك وحدة الشعب الفلسطيني وقضيته على الرغم من الفصل الجغرافي والسياسي، من خلال تعريض غزة بشكل مفرط لنجدة الفلسطينيين في الضفة الغربية.

وهكذا فشل رد الفعل الإسرائيلي المفرط، المدفوع بالغضب والسعي للانتقام والرغبة في فرض عقاب جماعي على الفلسطينيين لكسرهم وتحويلهم ضد المقاومة، فشلاً ذريعاً، بل وأدى إلى نتيجة عكسية: خارج فلسطين تماماً، وحشية جيش الاحتلال الإسرائيلي اقتنعت أكثر من أي وقت مضى باستحالة التعايش السلمي. كما أن عملية تبادل الأسرى هذه، التي تمت في وقت قياسي، لن تؤدي إلا إلى تعزيز قناعة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد الممكن للتحرير، وسيزيد من جاذبيته وأعداده وقوته عشرة أضعاف. فرؤية مشاهد الابتهاج والاحتفالات في شوارع فلسطين المحتلة، سواء في غزة أو الضفة الغربية، احتفالاً بإطلاق سراح النساء والأطفال الفلسطينيين المسجونين لدى الكيان الإسرائيلي، ستظل خالدة في الذاكرة باعتبارها أحد أعظم أيام انتصار المقاومة الفلسطينية.  فقط شعب ذو شخصية لا تقهر، شعب أسطوري حقاً، يمكنه أن ينتزع مثل هذا النصر من المحتل وفي غضبه العاجز، زاد الكيان الإسرائيلي من مداهمته لمنازل أهالي الأسرى الذين كانوا على وشك إطلاق سراحهم لمنع الاحتفالات ومصادرة المعجنات والحلويات، بل وذهبت إلى حد تهديد الأطفال المحررين بإعادتهم إلى السجون إذا شاركوا في الاحتفالات. لقد كان جهداً مثيراً للشفقة بقدر ما كان عبثاً.  إن الشعب الفلسطيني شعب لا يمكن اختزاله، ولا يمكن لأي تهديد أن يمنعه من الاحتفال بهذا النصر المدوي الذي حققه على ” الجيش الذي لا يقهر”.

أما بالنسبة للرهائن الإسرائيليين المفرج عنهم، فنظراً لكارثة العلاقات العامة التي أحدثتها تصريحات الأسيرة يوشيفيد ليفشيتز (83 عاماً) بعد إطلاق سراحها من قبل المقاومة الفلسطينية لأسباب إنسانية، والتي أشادت فيها بإنسانية رجال المقاومة الذين مددت لهم يدها بالامتنان، فإن “الاحتفالات” الوحيدة المخطط لها هي عبارة عن استجواب من قبل الشاباك وحظر التحدث إلى وسائل الإعلام، باستثناء الإدلاء بتصريحات مكتوبة مسبقاً من قبل الأجهزة الإسرائيلية. ومن المؤكد أنه سيكون مصدر ارتياح كبير لعائلات الأسرى المفرج عنهم، ولكنه يوم حداد “لإسرائيل “.

ويبقى السؤال: هل إطلاق سراح بضع مئات، أو حتى كل آلاف السجناء الفلسطينيين، يبرر كل هذه التضحيات؟ أكثر من 20 ألف شهيد، نصفهم من النساء والأطفال، ودمار كارثي لكل شيء في غزة، ومعاناة لا توصف، وإبادة حقيقية مخططة لقطاع غزة؟ حقيقة الأمر متروك قبل كل شيء للشعب الفلسطيني ليجيب على هذا السؤال.

رسالة لأطفال غزة

ولكن بكل الأحوال ما من شك في أن الجواب هو نعم، وألف نعم، فعندما سأل أحد الفلسطينيين حنان البرغوثي المفرج عنها حديثاً ما هي رسالتها لأطفال غزة، وخاصة الآلاف منهم الذين قتلوا جراء القصف الإسرائيلي، أجابت: “يا أطفال غزة، سوف نلتقي مرة أخرى في الجنة، وهذا النصر لكم وهذه الرسالة هي رسالة سكان غزة منذ 7 تشرين الأول”.

لم يعد بالإمكان إحصاء مقاطع الفيديو لرجال ونساء وأطفال يخرجون من تحت الأنقاض، وهم الناجون الوحيدون من عائلاتهم، ليجدوا أنفسهم وحيدين في العالم ومعدومين من كل شيء، ويستذكرون ولائهم للمقاومة، حتى وهم يعانقون جثث أطفالهم، يصرخ الفلسطينيون قائلين: “طالما أن المقاومة جيدة، فكل شيء على ما يرام”.

إن حجم المجازر والمعاناة التي يتعرض لها سكان غزة يتجاوز نطاق الفهم، لكن صبرهم وصمودهم وتمسكهم الذي لا يتزعزع بقضيتهم أعظم بكثير.  وكما قال خضر عدنان الأسير الشهيد الذي هزم الاحتلال مراراً وتكراراً من سجنه عبر إضراباته عن الطعام: “البعض يقاتل من أجل خبز يومه، والبعض الآخر يقاتل من أجل شيء أنبل، ألا وهو حريته وكرامته وشرفه. الكرامة لا تشترى، ولا تباع، بل تنتزع بالقوة، بالبطون الفارغة.  يريدون تدمير كرامتنا وكرامتكم، لكننا ندافع عن شرفنا وشرفكم، وتساءل: لماذا نتخلى عن هشام أبو هواش، الأسير الفلسطيني الذي أمضى 141 يوماً مضرباً عن الطعام قبل أن يكسب قضيته؟ ولمن نتخلى عنه؟ للكلاب بين المستوطنين؟ إلى نفتالي بينيت؟  أم إلى بيني غانتس؟ في حين أن بهيمتهم معروفة؟ هل فقدنا كل كرامتنا لدرجة السماح للاحتلال أن يدوس علينا بهذه الطريقة؟ هل فقدنا كل الشرف؟ هل فقدنا كل أوراقنا الرابحة، لدرجة تركنا المحتل يقتل كرامتنا بقتل هشام؟ والواقع أن الأمر لا يتعلق فقط بتحرير السجناء: فإلى جانب هذا الواجب الأخلاقي والإنساني والوطني الحتمي، إنها مسألة إعادة تأكيد كرامة شعب بأكمله، وتذكير العالم بأن نضاله مقدس وأنه لن يؤدي إلا إلى تنتهي بالاستشهاد أو النصر”.

لأنه بدلاً من انتظار المساعدة الوهمية من المجتمع الدولي أو الجامعة العربية، وبدلاً من ترك أنفسهم يقتلون ببطء ويختفون في صمت، استمع الشعب الفلسطيني إلى نصائح خضر عدنان، وفضّل أخذ الأمور على محمل الجد للحصول على الحرية، مهما كان الثمن.

أوهام نتنياهو تتحطم

في نهاية المطاف، الحديث هنا عن النضال من أجل تحرير كل فلسطين، إذ يشكل اتفاق تبادل الأسرى الذي تم التوصل إليه في وقت قياسي إنجازاً كبيراً، حطم كل أوهام نتنياهو، فبينما كان يحلم بتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، من المحتمل أن يدخله التاريخ باعتباره الحفار الرئيسي لقبر الكيان الغاصب. إن المفارقة التاريخية الاستعمارية المتمثلة في “إسرائيل”، والتي نشأت في وقت حيث كانت الإمبراطوريات القديمة تنهار، لن تختفي دون عنف، لأن أي نضال من أجل إنهاء الاستعمار والتحرير يتطلب تضحيات هائلة. وفي نظر الفلسطينيين، لن يكون أحد أكبر من القدس والمسجد الأقصى وأرض فلسطين، ناهيك عن كرامتهم التي لا تقدر بثمن.  ومن خلال شجاعته التي لا مثيل لها، وتصميمه غير المرن، ومقاومته البطولية، لم ينتزع الشعب الفلسطيني حقوقه وكرامته من “إسرائيل” فحسب، بل فرض الاحترام وحتى الإعجاب على العالم أجمع، ووضع نضاله في طليعة الجهود الدولية، وهذا النصر المدوي ما هو إلا مقدمة لنصر آـخر مؤزر.