دراساتصحيفة البعث

في ذكرى اغتياله.. سليماني أنموذج فريد في ميدان المقاومة

د. معن منيف سليمان

تحيي جمهورية إيران الإسلامية ومحور المقاومة الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال اللواء قاسم سليماني، أبرز قادتها العسكريين الذي استشهد بضربة أمريكية في العراق، وأضحى رمزاً على امتداد العالم الحر. واغتيل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري فجر الثالث من كانون الثاني 2020، ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، في ضربة جوية قرب مطار بغداد، خارج حدود إيران، في عملية اغتيال وضعت الجمهورية الإسلامية بمواجهة تحدّيات على صعيد دور إقليمي كان سليماني أحد أبرز صانعيه.

اندمج الفريق سليماني المولود عام 1958، لعائلة فقيرة في قرية “قناة ملك” في كرمان، في حرس الثورة وأصبح قائداً من قياداته المميزة، وقاد “قوة القدس” وأصبح باعتراف أمريكي، مؤثراً وفاعلاً كبيراً في معادلات “الشرق الأوسط”.

وكان الشهيد قاسم سليماني في أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية أحد العقول البارعة في ميدان القتال.

وعلى مدى أربعين عاماً قضّ سليماني مضاجع أعدائه وحوّل أحلامهم إلى كوابيس من إيران، إلى العراق، وسورية، وأفغانستان، واليمن، وفلسطين، ولبنان. وقد فاجأهم بكفاءته العالية في كل الحقول بوصفه قائداً جمعياً يضع الخطط المبدعة لمواجهة الأعداء إلى حدّ أفقدهم صوابهم، وأسقط في أعين المقاومين كلّ نماذجهم من رومل إلى مونتغمري إلى أيزنهاور إلى ستانلي ماكريسنال وديفيد بترايوس، ما أوقع الأمريكيين في مأزق لم يعرفوا حتى الآن الخروج منه.

وقد اعترف قائد القوات الأمريكية الغازية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس الذي تأثر بالشهيد حيث قال: “سليماني خصم جدير” وأثنى بمرارة على مهاراته، حيث كان الشهيد يهزمه في كل المحطات في العراق وغيره من المواقع.

وفي تعليق أحد قادة العدو الصهيوني على استشهاد سليماني قال: “كان بذكائه ومهاراته يساوي رئيس الأركان ورئيس الاستخبارات الإسرائيلية الموساد معاً”.

لقد بات مكشوفاً وواضحاً الدور الكبير الذي قام به الشهيد سليماني في دعم وتمويل المقاومة اللبنانية، ثم المقاومة الفلسطينية، حيث امتلكت مقاومة غزّة بمختلف مسمّياتها، صواريخ الكورنيت المتطوّرة التي حوّلت المعادلة لمصلحة الفلسطيني وفي تدريب وتسليح مختلف الفصائل الفلسطينية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك يكون سليماني قد دخل فعلاً التاريخ عندما وصفه الفلسطينيون بـ”شهيد القدس”، وعُلّقت صوره ومعه المهندس في شوارع غزّة. وما أظهره الفلسطينيون من حبّ وحسرة على فقدان سليماني، وتأكيد لمواصلة نهجه، يعطي صورةً تكسر حواجز الطائفية المصطنعة.

ومن الواضح أنّ حواجز الطائفية التي عملت عليها بعض الأنظمة العربية من خلال الدفع بالتكفيريين والمفخخات والتخوين والدعوة إلى قتله من خلال إنفاق الأموال، وإيجاد فتاوى مشبوهة تحرّض على الانقسام الطائفي، تحطّمت، فاليوم يبادر الفلسطيني ربما قبل غيره للحديث عن أهمية وقوة وتأثير سليماني بالنسبة إلى فلسطين.

وقد وقف سليماني مع المسيحيين حين تخلّت الإدارة الأمريكية في حينها عنهم، حيث لم يلبّوا الطلب بوقف تقدّم تنظيم “داعش” الإرهابي في سهل نينوى بالعراق، وكان أحد رجال الدين طالب الجانب الأمريكي أن يحافظوا على المكوّنات في سهل نينوى من المسيحيين ومن الشبك ومن الإيزيديين ومن التركمان، ولكن لم يستجيبوا وسقط سهل نينوى بيد تنظيم داعش الإرهابي.

الشهيد سليماني كان يتعامل مع الإنسانية بعيداً عن الطائفة والدين، ما أسهم في تسليح وتدريب مسيحيي العراق، للدفاع عن أراضيهم ومنازلهم، كما أنه قدّم نفسه لكل العراق بجميع طوائفه دون تمييز. فحين اتّصل قادة إقليم كردستان بالشهيد سليماني، أتى مسرعاً وذهب إلى أربيل، في حين رفضت الولايات المتحدة الاستجابة لحمايتهم.

وعلى صعيد الدولة العراقية كان الشهيد سليماني مفكرها ومفنّد مشكلاتها ومقدّماً الحلول لأكثر القضايا الاستراتيجية، وأتى تشكيل الحشد الشعبي كقوة عراقية يجتمع في كتائبه جميع فئات الشعب وبدعوة وفتوى من أكبر مرجع ديني في العراق. وما كان على الدولة إلا الاستجابة لشرعية هذه القوة العراقية ومشروعيتها التي لولا جهود الشهيدين سليماني وأبي مهدي المهندس ما كانت لترى النور وتصبح قوة يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها في مواجهة الاحتلال والإرهاب.

أما في سورية، فقد أسهم الشهيد سليماني كمستشار ميداني إلى جانب الجيش العربي السوري في تبديد كلّ أحلام الأمريكي ومنتجاته كتنظيم داعش الإرهابي ودول أخرى، قضى عليها بالترتيب: “الجيش الحر”، داعش، جبهة النصرة، وألوية أحرار الشام وغيرها من المجاميع الإرهابية، وهزئ من العقول التي درّبتها في أعتى الكليات العسكرية وأرقاها.

ونتيجة لهذا النشاط المقاوم للمشروع الأمريكي أقدمت أمريكا بكل رعونة على اغتيال القائد سليماني، وكان الهدف الفعلي لهذا الاغتيال هو وقف مسار تصاعد قوة محور المقاومة وقدراته، عبر إزاحة قائد قوة القدس والمدير العملاني لمناورة المحور المذكور في مواجهة الأمريكيين والصهاينة والإرهاب المنبثق من الطرفين، تنظيم داعش الإرهابي وإخوته.

ولكن، وبعد مرور ثلاثة أعوام على الاغتيال، وبسببه إجمالاً، تتزايد يوماً بعد يوم فرص وإمكانية تحقيق الهدف الأول المعلن من جهة، وهو استهداف الوحدات الأمريكية في المنطقة والضغط الجديّ لإخراجها، ومن خلال ذلك، سيتحقق عبر هذا الانسحاب بعد اكتماله الاستهداف الجديّ للأمن القومي الأمريكي، عبر إخراجها بالقوة وتوجيه صفعة لاستراتيجيتها التي هدفت إلى تفتيت دول محور المقاومة ودفعها نحو الاستسلام أمام حركة التطبيع مع “إسرائيل”.

من جهة ثانية، كان كلام مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أن إيران أصبحت أقوى بعد اغتيال سليماني، كافياً لتبيان إخفاق عملية الاغتيال في وقف تصاعد قدرات محور المقاومة، ما تضمّنه فيما سلف التقدير الاستراتيجي السنوي الصادر عمّا يسمّى “معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي”، الذي احتوى خلاصات وتوصيات بشأن السياسات التي يجب اتباعها خلال عام 2021، وتحذيرات من استمرار “تدهور في ميزان الأمن القومي الإسرائيلي”، وذلك على عدّة مستويات، أهمها “استمرار التآكل في التفوق النوعي الإسرائيلي مقابل إيران التي تتقدم بمشروع دقة الصواريخ وتحرّرها من حظر الأسلحة المتطوّرة”.

بعد هذا الاغتيال، لا يمكن لأي متابع موضوعي إلا أن يكتشف أن مسار تطوّر قوة وقدرات محور المقاومة تصاعد أكثر وأكثر، وأن نقاط قوة أطرافه وفصائله تزايدت بشكل لم يعُد الأمريكيون والصهاينة يملكون القدرة على اللحاق بهذا المسار وضبط حركة تصاعده، في سورية، والعراق، واليمن، ولبنان، وفلسطين.

وبالتالي هل ما صرّح به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من أن “العالم أفضل من دون سليماني”، تحقّق بالفعل؟، وهل فعلاً العالم اليوم أفضل؟ بطبيعة الحال، حجم الخطر المتصاعد لا يوحي بأنّ العالم من دون سليماني أفضل.

لقد أصبحت ذكرى الاغتيال مناسبة وطنية يشدّد فيها المشاركون في الفعاليات على ضرورة أخذ الثأر والقصاص من الأمريكيين على جريمة اغتيال قادة النصر، وإخراجهم من العراق وسورية، من خلال رفع شعار “لا تراجع عن طرد القوات الأمريكية”.