ثقافةصحيفة البعث

المسرح يتنفس مع تأبين عبد الفتاح قلعه جي

حلب- غالية خوجة

أقام اتحاد الكتاب العرب بحضور رئيسه الدكتور محمد الحوراني، وبالتعاون مع مديرية الثقافة حفل تأبين الأديب والكاتب المسرحي عبد الفتاح رواس قلعه جي الذي رحل عنّا في 16 تموز 2023، والذي ملأ المنصة المسرحية الحلبية بشخوصه التي تجولت في المسارح العربية مع كتاباته، ولاسيّما أنه جعل حياته مشروعاً للأدب المسرحي بوجداناته الإنسانية، وأفكاره المتحركة مع الحالات النفسية لأبطاله.

سحرنا بمضمون أعماله المسرحية

هذا ما أكده الحوراني في كلمته، منوعاً في الضمائر بين المتكلم والغائب والمخاطب، ليجمعها في الأثر الذي تركه الراحل كتراث للأنا الجمعية، ومنها هذه المقتطفات: “الباحث النّاقد والأديب الأريب عبد الفتّاح روّاس قلعة جي، أحد أهمِّ أعمدة المسرح العربيِّ والمُنقِّبينَ في جماليّاته، السَّابرين أغوار بداياته الأولى، ليُتْحف عُشّاق المسرح ومُريدي الفنِّ الحقيقيِّ بتسعين مسرحية، بالإضافة إلى مُؤلّفاته المُتنوّعة في التُّراث والدّراسات النقديّة والإبداعات الأدبية المختلفة، مُعتمداً في ذلك على حقائق تاريخيةٍ، تَعامل معها بإحساس الطبيب وبراعة الأديب، واستفاد منها بكُلّ مصداقيّةٍ، من غير تحريفٍ أو تَشْويهٍ، مُتَّكئاً في هذا على كُتب التاريخ والتُّراث والفلسفة والفكر، ولأنّهُ كذلك فقد غدا المُثقَّف الأصيل والمسرحيَّ الرَّصين رصانة حلب، مدينة الأصالة والانتماء والوطنية الباذخة، بعد أنْ سحرنا بمضمون أعماله المسرحيّة، وأسرنا بشاعريّة لُغته، وتقْنيَّة البناء المشهديِّ المُتعدِّد، ونقده اللاذع لواقع الإنسان المهيض”.

وأضاف الحوراني: “نذكرُ ذلك لنُؤكّد أنّ فقيدنا الكبير لم يُدوِّن هذه المعارف إلّا لنستفيد من مكانة حلب التاريخيَّة في الثقافة عموماً، وفي المسرح خصوصاً، وهو لم يذْكر ذلك عَبَثاً، بل أراد أن يحُضَّنا على مُواصلة ما قدَّمهُ الأوَّلون المُقدَّرُون لننهض بالواقع، ونعيد إلى المسرح ألقهُ البهيَّ، اعتماداً على بهاء ميراثنا وإرث الآباء المُؤسِّسين”.

أمّا عن دور الجهات والأدباء والمثقفين والمهتمين، فلفت الحوراني إلى محاور أساسية عدّة، ميقول: “إنَّنا ليقع على عاتقنا التذكير دائماً بقيمة المُثقَّف إنساناً ومُبدعاً، وأن يبقى في الذاكرة حاضراً وملهماً، باحتساب أعلام الأُمّة، وهم روَّادها الأفاضل، وتاريخها المعرفيّ والثّقافيّ، إيماناً واعترافاً بأنَّ قيمة ما أبدعوه، وخلَّفوه للأجيال المُتعاقبة يبقى المنارة والنِّبراس، اللَّذَينِ يضيئان فكرنا وثقافتنا، كيف لا، وأعلام الأُمَّة هم التاريخ الحقيقيّ المتوهّج بضياء الحقّ والمعرفة والاستلهام المطلق لسيرة الوطن والأمّة أمام كائنات كينونة الحياة والأُمم والزَّمن؟!
ستبقى سيرتُك الأدبية وعطاؤك الإبداعيّ والمسرحيّ قبلة لكلّ باحثٍ حقيقيٍّ عن الثقافة الناهضة على أسسٍ قويمةٍ من العلم والفكر والتُّراث النّهضويِّ التنويريِّ، وهو ما يكفل لك أبديّةَ الحضور، يا أبا ياسرٍ، بعد أن سبرت أغوار الحياة والموت وما بعد الموت، وآثرت الغوص في أغوار النَّفس الإنسانية ومصائر البشرية، محاولاً تخليصها من أنطولوجيا الشَّرّ الممسكة بها بنَثْرك بذور الحبِّ بصفته التّرياق لكلِّ أوجاعنا”.

فيلم صور وثائقي

وضمن حفل التأبين الذي قدمه الشاعر إبراهيم كسار، شاهد الحضور فيلماً وثائقياً قصيراً عن الأديب الراحل، وسيرته الأدبية، وحضوره من خلال الصور والذكريات والمهرجانات والمدن، وحضور صور أغلفة مؤلفاته، وصور جلسته الكتابية بين قلم ودفتر، وخلفية موسيقية مناسبة معزوفة على آلة الناي.

ماهية اللحظة العارفة

لم يتوقع الطفل عبد الفتاح رواس قلعه جي الذي ولد في حي الكلاسة بحلب عام 1938 أن تكون المنصة عالمه الكتابيّ الدائم، وأن تكون حياته الأخرى ذاتها حياة شخصياته المستمدة من الواقعين التاريخي والمعاصر، وأن يعاني متواليات الأحداث عبر الأزمنة وأن يتأثر بمشاعر الإنسان المنهوب في هذا الزمان، فتشبث بماهية اللحظة ودمجها بسينوغرافيا الأزمنة والأمكنة التي يعرف متى يضيئها على الدواخل الإنسانية لتتحاور “مونولوغياً”، ومتى يوجهها على العوامل الخارجية لتتحاور “ديالوغياً” مع الآخرين والكائنات والطبيعة، لكنها ومع ثنائية الإضاءة، تلتقي في تلك الفواصل الروحية المستشرفة لما وراء الطبيعة، وتحلق مع أرواح العارفين الذين إنا باحوا بالسر تباح دماؤهم، وهو ما انطلق منه المشهد المسرحي القصير الذي قدم في التأبين، مأخوذاً عن مسرحية قلعه جي “سيد الوقت ـ السهروردي ـ ومثّل دوره الفنان فارس العلي”، مختزلاً فلسفة الصوفية، وصوفية الحكمة، وعرفانيّة التخلي، وحكمة التجلي، ومرتكزاً ليس على اكتشاف السماء والأرض، بل على اكتشاف كل منا لنفسه، تلك النفس التي ظهرت في المشهد شخصية مؤنثة، أدتها الفنانة عبير بيطار، تشبه العروس بثوب زفافها الأبيض، فرآها سيد الوقت “حورية”، وبدأ معها حوار الحكمة المشع من البرزخ، لتخبره “هل أنا غير أنت؟ وما صنعت يداك أيها العارف؟”.

ومع مرحلة الإشراق، وقبل المحطة الأخيرة للوصول إلى الفناء المادي، تحضر شخصية الشيطان “لهب” ويؤديها الفنان أحمد خليل، لتحاور العارف وتدخل على أعماقه من خلال نقطة الضعف المرموز لها بـ”الندم”، ويعرض عليه أن يخرجه من مأزقه والمكان الذي حُكم عليه أن يكون فيه كبُعد محدود، لكنه يرفض، قائلاً: “أحاور الشيطان لكني لا أصادقه”، فيبكي الشيطان لأنه سيفقد العارف ومحاورته، خصوصاً، وأن الموت كان المرحلة الأخيرة للحوار والمشهد وكلمات العارف: “أتعرف لماذا أنا مصرّ على الموت؟ لأطير من قفصي وأحيا”.

ضمن هذه الحكمة المتصوفة، تتكرر، كخلفية للقطة الختامية، جملة تأملية: “عجيبٌ أمر هذا الإنسان الذي لا يأسى بأمر الإنسان”.

تخللت المشهد موسيقا روحانية موروثة منها “مولاي إني ببابك قد بسطتُ يدي”، مما أضفى طابعاً جمالياً بين الموت والفقد والحياة والخلود، تاركاً الحضور في عالم من التأمل والعبرة، بالإضافة إلى أنه ذكرني، وخلال مدته التي كانت 10 دقائق، بصراع درامي بين الضوء والظلام، والفناء والبقاء، والوجود وما وراء الوجود، والقلق والطمأنينة، وأحالتني إلى العديد من الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الصراع الذاتي الباطني، وشخصنتْهُ، سواء في رسالة الغفران للمعري، أم الملحمة الإلهية لدانتي، أم أزهار الشر لبودلير، أم فاوست غوته، أم ألف ليلة وليلة، كما أنها فتحت بوابتها على مسرحية قلعه جي “البوابة”، ورحلت بنا إلى أعماله الأخرى التي بحاجة إلى تجسيدها مسرحياً في مدينته حلب، والقابلة للحضور على المنصة بطاقات مختلف الأجيال، آملين أن يكون هناك مهرجاناً مسرحياً باسم عبد الفتاح قلعه جي لتقديم نصوصه على المنصات.

قاعة باسم قلعه جي

بدوره، أكد جابر الساجور مدير الثقافة في حلب أعمال قلعه جي التي أنارت خشبات المسارح في سورية وأرجاء الوطن العربي، وعرفته المهرجانات المسرحية وكان فيها ناقداً ومحكّماً، كما عرفته إذاعة حلب كمسؤول للبرامج 15 عاماً، ولن ينساه طلابه الذين درّسهم قبل هذا التنقّل بين المناصب ومنها رئاسته لفرع حلب لاتحاد الكتّاب العرب، ونال العديد من التكريمات والجوائز منها جائزة الدولة التقديرية التي تمنحها وزارة الثقافة عام 2015.

ولفت الساجور إلى ضرورة اهتمامنا بالشخصيات الفكرية والأدبية والفنية، ولذلك، أعددنا مشروع دراسة لأهم قاعات مديرية الثقافة باسم قلعه جي، وإحداث ركن خاص لمؤلفاته في دار الكتب الوطنية.

وفاء شخصية “اللحّاد”

بينما توقف المترجم محمد إبراهيم العبد الله الذي ألقى كلمة أصدقاء الفقيد عند نقاط عدة، أهمها ضرورة الانشغال بمؤلفات الراحل منذ كتابه الأول “مولد النور/1970” كملحمة شعرية تبعها 90 كتاباً متنوعاً، كإرث تركه للأجيال، كذلك، تحدث عن الصداقة التي جمعتهما وجعلت قلعه جي يرسل إليه نصوصه التي ما يزال يحتفظ بها، ولا سيما تلك التي لم تنشر بعد، وهي 3 مخطوطات، رابعها سيرى النور قريباً، وسيصدر عن اتحاد الكتاب العرب وهو مسرحية “ترانيم”، بينما صدرت له مؤخراً مجموعة “زهرة الموت والمطر” عن الهيئة العامة السورية للكتاب.

ولفت العبد الله إلى تلك الذكريات، ومنها حديث الأديب قلعه جي عن الغبن الذي لحق به في وطنه مثل كل كاتب، وعن شخوصه التي استلهمها من التاريخ ليخبر الإنسان عن الإنسان والإنسانية، لكن أغلب تلك المضامين لم يتمتع بها محيطه، فلم تخرج جنازته بموكب لائق، مدجج بالأزهار، بل اكتفى بشخصية وفية من شخصياته ألا وهي “اللحّاد”.

واختتم: “لكنني سأظلّ وفياً وأسعى إلى طباعة مسرحياتك التي لم تنشر، وسأعمل على تأسيس جمعية أصدقاء عبد الفتاح قلعه جي”.

الإنسان مرآة الكون

ثم ألقى الشاعر محمود علي السعيد قصيدته “هودج الرحيل”، راثياً الراحل بشجن وكلمات أصواتها مجرّحة، وهذه الأصوات جاءتنا مع كلمة ابن الفقيد ياسر عبد الفتاح قلعه جي التي خاطب بها أباهُ غير متخيل أن يكون في هذا الموقف، وعلى منصة والده فارسها، حاكياً الكثير عن شخصية قلعه الشّامخة والكريمة والطيبة، وكل هذا يراه في ركنه الخاص في البيت من خلال نظارته وزجاجها الذي رأت كلماته وهو يكتبها نصوصاً، وكأنها ما تزال تردد مقولته: “الإنسان مرآة الكون، ومن ينظر فيها يرى عظمة الله”.

واختتم حفل التأبين بتوزيع المتوافر من إصدارات الأديب الباحث الراحل عبد الفتاح رواس قلعه جي.