ثقافةصحيفة البعث

“خريف المرايا” وبلاغة المثل في الزمن المفتوح

طرطوس- هويدا محمد مصطفى

حين نقف على حركة المدلول في النظام اللغوي لشاعر ما، ونتخيّل الأبعاد الغائرة في المضامين إلى اختيار المصطلحات، وهي تصل درجة التصنيف، لا بدّ لنا من التمعن في هذا الوقوف من حيث الإثبات أو النفي، لما يمكن عدّه المفارقة، وقد يترك باب القياس مفتوحاً على التأويل أيضاً، لكن رجفة القلب يصرخ خارج أكياس الدم والتي ضخها الشعر ليدخل عبرها مناطق الرؤيا بحيث تكون القصيدة المشتهاة أكثر أمناً، وآنذاك يطفئ الشاعر سيجارته ويستريح.

من هنا يمكننا الدخول إلى عالم الشاعر محي الدين محمد، إذ تحملنا الإشارات في قصيدته إلى الأماكن الضريرة فوق الأرض، وقد ضوأتها الأسرار، واختلفت فيها المقاصد النصية وشكلت التداعيات المسكونة بالقلق حتى حدود النار قرارات انتقائية تجاوز فيها الإقامة تحت قوس قزح بألوانه السبعة، وتعتق هواه ليغزل منه أغاني السهول، ويحدث عبر جدلية الشجن عوامل التغيير المرتقبة، وكأنه يقود انقلاباً ليزيح خيوط الظلام من أمامه ويستولد منه حركة أخرى في لغة الوجود، وثم تأتي صياغة الألفاظ من ماء القلب مثل غيمة ينسل منها الرذاذ ليعبر فوق المسافات، واقتحام العتبات في مغامرة أخرى للقصيدة.

تلك القصيدة التي انطلقت منها كل أسباب المقاومة ضد صيحات الفقر، والجوع، والغرب، ومرافئ الأمل في المدن البريئة ونحن نقرأ “خريف المرايا” نتلمس استطلاعاً مزركشاً لطبيعة الأمكنة، التي يغزوها الاغتراب، ويسطو عليها البؤس ويغرينا تاج اللغة الحامل للصورة الطالعة من عروق الشعر، وعبر فطرة حزينة اكتشف فيها الشاعر مداراً آخر للذوق الفني ليكسر من خلاله مواطن الخوف الساكن في جلد الكرة الأرضية، ويقول (ص٥٢):

هنا سكة الوقت ملأى

وبين يديها خزائن ورد

تجملها الآه…

حرائق تندى

ممالك تهوى عناقاً

فتؤنس طرفي

وقد مر عصر البياض

دم في العروق

قوافل تغسل

جفن البراري.

تبدو مفردات الشاعر في هذا النص موزعة على الألوان الحارقة، ولكن وفق مقاسات اللغة الناضجة عبر آلة نفسية موجعة، حيث تشدّ القارئ هذه الشعرية الحافلة بالدلالات العاطفية العميقة، التي اغتسلت معها المعاني بفيضانات روحية مثقلة، حيث عرشت عناقيد اللغة وامتدت حتى آخر الأبعاد، وكانت الرؤيا في السياق الداخلي لبنية القصيدة هي إحدى مرجعيات الشعر الثرة الذي يسوق الأطياف الحانية ويظللها بالتصويرات البلاغية في استخدامها للتشبيهات المتعددة كما في قوله:

تلبس الأرض قميص الأرجوان

كيف الطريق إلى بابها

وقد هرم الثوب

واستبيح الآوان..

ما بين رشدي وبيني

أطوف خمساً

وأنسى لا شيء حولي سواي.

إن هذا التنويع وكثافة المفردات عن حاجة اللغة، هي مقاربات ذات كشف فني جميل، حيث أظهر الشاعر فيه الحاجة إلى الثورة كخلاص أخير.. وثمة زمن يقترب في نقلته من الباب وقد تركه يرسم توتراته الدرامية داخل النص، وذلك من خلال إيقاع الألفاظ المتجانس في أدائها الاستعاري، عبر نغم تسكنه التفعيلة هو عنوان الوميض الذي اخترق أبعاد الشاعر النفسية، وأسس لما يمكن تسميته مبدأ التحفيز في أنظمة النص المدروسة وكأنه الإشهار الروحي من أجل غاية محددة، وقد نزع عبرها فتيل اللحظة الشعرية من التدوين التاريخي إلى حالة أخرى هي الكشف عبر قصيدة الرؤية والحلم خلف “خريف المرايا” الذي تجاوز حرية التشكيل الموسيقي في انتقاء الجرس المألوف، والذي أكده في المقطع (ص٩٥):

ها أنا عابر؟

وتعشو الطريدة

هل أنا نازح

وتعرى القصيدة؟

سحابة الهم غرق في الصور

لا أحب العيش نصفاً

حين أهوى…

بارد قيظ المعاني

وقد تلألأ صوت القصائد البيض

همساً.

لقد ركز الشاعر على حركة اللا مكان في إحداث التغييرات ليكون الانفجار بحجم الزلزلة نحو الآفاق المعرفية من خلال الدراية بالزمن العربي المليء بالفجوات، ورتب قضايا الطريق تبعاً لأهميتها، مشيراً إلى القدرية التي يمكن التصدي لها شعرياً.

وفي (ص١٢٢) يقول:

تتزاحم الأسرار

ثم تدور أرض الله

فينا واقفة

أحتار كيف أدير كأسي

وعلى سفين الأرض

من أوصالنا

يتهاتف الماء القليل

وينكسر التعب

نجد هنا بلاغة المثل في النص المفتوح، وهذه تقودنا إلى أسئلة كثيرة ليجيء الكشف عن هذا المخبوء الفلسفي من خلال هذا الامتلاء التقني في حركة النصوص، وقد أسس عليه الشاعر أفكاره وتأودت عذرية مفرداته في مقاطع ذات نفس ملحمي، برز معها دفء الصوت، وحنين الورق وهز رياح اللغة المسكونة بالأصوات ليقول (ص ١٢٦):

من قال:

إني كبرت

أو طارد الشيب نخيلي؟

يفتش الفجر كل يوم

ساعد الورد عني

يقول أما تأخرت؟

لا شكّ في أن عناصر الأصوات الشعرية في هذا النص قد استولدت بأسلوب فني اعتمد فيه على الاختصار، وترتيب الأحداث وأمام المشهد الحزين الذي برهنت عليه مكاشفته عبر تلك الأسئلة والتي شكلت بعده القصي في جموح الموهبة، وإثبات نفي النفي على طريقة الجدل في حركة الإبداع الشعري “خريف المرايا” للشاعر محي الدين محمد تعتمد النوعية الجديدة في اختيار القصيدة تحت ظلال درامية، وصحوة شعرية يطلّ علينا الشاعر بمنجزاته واستعاراته الهادئة التي تتصل الإشارات دائماً على الرغم من سهولتها في التغيير لتدخل القارئ في دائرة المرايا والتأمل في حركتي الزمان والمكان.