دراساتصحيفة البعث

مسألة تراجع الأحزاب .. قراءةٌ سياسيةٌ

تعدّ الظاهرة الحزبية حديثةً نسبياً ولاحقةً على نشوء الدولة القومية بعد وستفاليا (1648)، ومرتبطةٌ إلى حدٍ كبيرٍ بالفكرة التمثيلية، إذ ظهرت الأحزاب السياسية في القرن الثامن عشر ميلادي داخل الكتل البرلمانية، وبدأت بالتمأسس خارجها مع انتشار حق التمثيل والاقتراع الشعبيّ العام.

ومن الولايات المتحدة إلى أوروبا إلى بقية دول العالم شهدت هذه الظاهرة مدّاً عالمياً كبيراً في القرن التاسع عشر حتى منصف القرن العشرين، وارتبط بالتنافس على السلطة، وحشد المجتمع، وبدا اتجاه نموه مضطرداً مع تطور دور الدولة من جهة، ورسوخ العقد الاجتماعي في المجتمعات من جهةٍ أخرى، لكنّ هذا المد بدأ بالتراجع من منتصف القرن العشرين لأسباب كثيرة سنستعرض أهمها في هذه المقاربة، سيما مع ظهور الأحزاب الشمولية التي احتكرت حق تمثيل المجتمع.

راهناً تمر الظاهرة الحزبية بأزمةٍ حقيقية، فلم تعد الأحزاب عموماً ذات قدرةٍ عاليةٍ على الحشد والإقناع الجماهيري، مع ميل الجمهور عموماً إلى فكرة العمل السياسي بعيداً عن مبادئ وأسس التيار الممؤسس، إضافة إلى انتشار الشعبوية كتيارٍ سياسيٍّ قادرٍ على الحشد الجماهيري دون أسس وقواعد العمل الحزبي، ومرد ذلك فكرياً هو انتشار تيارات ما بعد الحداثة القائمة على التفكيك، وعدم الانتظام، ونسف الأسس الحداثية للظاهرة السياسية التي تعدّ الظاهرة الحزبية أحد تمثيلاتها الرئيسة، وساهم في تعزيز ذلك جملةٌ من المتغيرات التي أثرّت على ضعف الفعالية الحزبية في النظم السياسية، ولعلّ أبرزها مسألة التحول الاجتماعي الرقميّ، فكان لظهور وسائل الإعلام الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي تأثيرٌ تحويليٌّ على كيفية قيام الأحزاب السياسية والمرشحين بحشد قواعدهم، فإحدى الوظائف الكلاسيكية للأحزاب هيّ وظيفة الربط بين السلطة والمجتمع، وتعبئة الناخبين، وتوفير القنوات لمشاركة المواطنين، والانخراط في التمثيل الوصفيّ والموضوعيّ للناخبين، وهيّ مسائل تفوقّت بها وسائل التواصل الاجتماعي الرقميّ على غيرها، ساعدها في ذلك التقدم الرقميّ والذكاء الاصطناعيّ في تحليلات البيانات الاجتماعية مما مكّن المرشحين من خارج الأحزاب بناء استراتيجيات اتصالٍ هادفةٍ وفعالةٍ دون دعمٍ أو حاجةٍ لحزبٍ سياسيٍّ.

من جهةٍ أخرى لعب الإعلام المعاصر دوراً في تراجع الأحزاب وحلّت وسائل الإعلام، والمال، وجماعات المصالح، بديلاً عن الحزب كمؤسسةٍ رسميةٍ تنظيميةٍ، وأضحت برامج الأحزاب، التي كان ذات يوم نقطة ارتكازٍ للمناقشات الوطنية الكبرى، ضعيفة التأثير والقيمة مقارنةً مع الصيغ الإعلامية المعاصرة التي تهتم بالصورة والتسليع الثقافي أكثر من العمق المعرفي وإنتاج الوعي الجمعي.

وما يمكن استنتاجه سابقاً هو أّن ظهور بدائل عن الأحزاب في أدوارها ساهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تراجع الظاهرة الحزبية، ولكنّ هذه البدائل ما كانت لتحقق نتائج كبيرةً على حساب الظاهرة الحزبية دون وجود عوامل داخليةٍ في الظاهرة الحزبية ذاتها ساهمت بتعزيز التوجه الجماهيريّ أو الشعبيّ نحو البدائل وفي مقدمها: التناقض في السردية التاريخية بين تاريخ الحزب وإنجازاته وواقع الحزب وراهنه، فوقوع الأحزاب عموماً أسيرة السرديات التاريخية وإنجازات الحزب، لتبرير الواقع، ينفّر الجمهور أو الحشد المتابع الذي يحتاج أن يرى إنجازاتٍ وحلاً لمشاكل الواقع لا خطاباتٍ سرديةٍ تاريخيةٍ لا تفيد في حلّ الإشكالات المعاصرة، من جهةٍ أخرى إنّ أعقد مرحلةٍ تمر بها الأحزاب السياسية هو مسألة وصولها إلى السلطة، وقد تتحول إلى أزمةٍ في مسيرته، مع وقوع الحزب في تناقضٍ بين أهدافه التي سعا للسلطة من أجلها، وبين السياسات التي يطبقها ممثلوه في السلطة، فالحزب في النهاية كفكرةٍ يقوم على وجود أهدافٍ محددةٍ لمجموعةٍ بشريةٍ تسعى للوصول إلى السلطة، لذلك مسألة الأهداف وموضوعيتها وقابليتها للتطبيق مسألةٌ حيويةٌ ومفصليةٌ في الحزب.

لذلك يتطلب الأمر مرونةً عاليةً في التكييف والمقاربة وإقناع القواعد، وألّا يصبح الحزب في السلطة هو السلطة ذاتها، وبالتالي لا فرق لدى المجتمع بين الظاهرة الحزبية والسلطة، ويفقد النظام الحزبي دوره وأهميته في المجتمع، ويتعزز حضور التيارات الشعبوية (غير التنظيمية) القادرة في عصر التواصل الرقمي، على الحشد أكثر من قنوات الأحزاب التقليدية.

لكلّ حزبٍ فلسفةٌ وأدواتٌ تمكنانه من البقاء سياسياً، سيما في بيئةٍ اجتماعيةٍ سريعة التغير، وإلا يقع الحزب في تأخرٍ تاريخيّ، يصعب بعده اللحاق بتطورات الاتجاهات السياسية للمجتمع، وربما يدخل مرحلة الفوات التاريخي ويبقى أسير الإنجازات السابقة، وهو ما يتطلب دراسة تغيرات المجتمع وابتكار أدوات تواصل جديدة مع  كلٍّ مرحلة تغير في المجتمع، وموائمة أهدافه العليا مع تطلعات المجتمع، ومسألة الموائمة ليست تخلٍ عن أيديولوجيا أو فلسفة بل تكييف هذه الأيديولوجيا لتبقى حيّةً في الوعيّ الجمعيّ، ودون ذلك يقع الحزب في فخ (الدوجمائية)، التي تعدّ مقتل الأحزاب ونهاية مسيرتها.

بالنهاية مسألة التراجع في دور الأحزاب هيّ مسألةٌ طبيعيةٌ وتأتي في سياقٍ عالميٍّ متغيرٍ اجتماعياً وثقافياً، ولكن الأمر (غير الطبيعيّ) هو الاستمرار في التراجع، وترك الفراغ ليتم ملؤه ببدائل قد تعمّق جراح المجتمعات النامية، وتقود لمزيدٍ من الاستقطاب الهوياتي، لتنعكس على استقرار النظم السياسية ومجتمعاتها، لذلك لابدّ من مراجعاتٍ حزبيةٍ مستمرةٍ تنطلق من تساؤلين رئيسين، ماذا تريد الأحزاب من المجتمع، وماذا يريد المجتمع من الأحزاب؟.

الدكتور سومر صالح

عميد كلية العلاقات الدولية والدبلوماسية جامعة الشام