دراساتصحيفة البعث

بوتين مجدّداً والغرب يستشعر زوال الهيمنة

ريا خوري

شارك ما يقرب من مائة واثني عشر مليون مواطن روسي في الانتخابات الرئاسية التي جرت من 15 إلى 17 من الشهر الجاري لاختيار رئيس جديد لجمهورية روسيا الاتحادية.

هذه الانتخابات الرئاسية هي الثامنة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، تنافس فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمرشح مستقل، وليس كمرشح لـ(حزب روسيا الموحدة) الحاكم، وثلاثة آخرون حزبيون هم: نيكولاي خاريتونوف (الحزب الشيوعي)، وليونيد سلوتسكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي)، وفلاديسلاف دافانكوف (حزب الناس الجديد).

وأشارت المعطيات المتوفرة قبل بدء الانتخابات إلى أنه ليس من المتوقع حدوث أي مفاجأة في هذه الانتخابات، التي من شأنها أن تؤكد السياسة الاستراتيجية الروسية على الصعيد الداخلي والإقليمي والعالمي، لأنّ المنافسين الثلاثة للرئيس بوتين هم من مؤيدي سياسات الكرملين تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا، وأيضاً تجاه خياراته السياسية والاقتصادية والتجارية والمالية والاجتماعية، وحتى العسكرية، إضافة إلى أن شعبية الرئيس بوتين تزايدت بشكلٍ كبير خلال العامين الماضيين بعد الحرب الأوكرانية الساخنة. وهذا يدل على أنه لا توجد منافسة حقيقية أو معارضة يمكن الاعتداد بها، أو الحديث عنها كقوة فاعلة قادرة على تغيير المشهد السياسي والانتخابي، وخاصة بعدما تم النظر في  طلبات اثنين من مرشحي المعارضة المناهضين للحرب الجارية في  أوكرانيا هما: يكاترينا دونتسوفا، وبوريس ناديجين، لعدم اكتمال أوراق ترشيحهما، ووجود مخالفات واضحة وصريحة في جمع التواقيع المطلوبة لدعم الترشيح.

إن سعي بوتين للفوز بولاية خامسة حتى عام 2030 في المنصب الذي شغله للمرة الأولى عام 2000 خلفاً للرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، يستند إلى تاريخ من الإنجازات الداخلية المهمة التي ساهمت بإخراج روسيا الاتحادية، من حالة ما يمكن أن نطلق عليه (الموت السريري) التي عانتها بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق، ووضع حدّ للفوضى العارمة التي رافقها ارتفاع مستوى الفساد، ومحاولة تمزيق نسيج المجتمع الروسي وتعميق الأزمات المعيشية والسياسية للمواطنين الروس، وانهيار الاقتصاد الذي واكب عمليات الخصخصة بشكل منقطع النظير، ما أسفر عن انهيار العملة الوطنية (الروبل) عام 1998، وبروز المافيات والمحسوبيات، وانخفاض القدرات الدفاعية للجيش الروسي، ووصول نخبة من رجال الأعمال إلى الحكم وسيطرتها بشكلٍ قوي على أهم مرافق الصناعة والتجارة والاقتصاد، والأخطر من كل ذلك، أن جمهورية روسيا الاتحادية خرجت من النظام الدولي كقوة كبرى، وتركت الساحة للولايات المتحدة الأمريكية تفرض عليها سطوتها وهيمنتها على دول وشعوب العالم.

كل ذلك وضع بوتين حداً له، وأعاد إلى روسيا الاتحادية هيبتها وقوتها، ومكانتها في العالم، وهو الآن  يبدأ فترة رئاسية جديدة بعد أن حصد ٨٧% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية التي انتهت الأحد، حسب استطلاع لمعهد “فتسيوم” الرسمي وكان التلفزيون العام قد أعلن  نتائجه.

لقد أكد بوتين بعد فوزه الساحق في الانتخابات العمل على استكمال المهمّة الكبيرة التي بدأها في المضي قدماً بعملية استعادة دور روسيا الاتحادية إلى أقوى ممّا كانت عليه عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، في أن تشكّل قوة سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية تشارك في قيادة نظام عالمي جديد أكثر مساواة وعدالة ومسؤولية، وفي مجابهة جميع المخاطر والأهوال التي تواجهها روسيا الاتحادية بسبب ما تتعرّض له من حصار اقتصادي جائر، نجح حتى الآن في تجاوزه، والقفز على عواقبه الصعبة، ومن حرب يقودها حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالوكالة في أوكرانيا، ونجح أيضاً في إفشالها فشلاً ذريعاً.

وفي الغرب، تطرّق المعهد الملكي للبحوث في بريطانيا إلى الحديث عن كل مرشح من مرشحي الرئاسة، مشيراً إلى أنّ لديه أيديولوجية خاصة له ومشاريعه الخاصة التي تخدم جمهورية روسيا الاتحادية، وهي في الوقت نفسه تصبّ لمصلحة مشروع الرئيس بوتين وتساعده بشكل غير مباشر على تنفيذ مشروع روسيا الاستراتيجي على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي خلال العهدة الرئاسية المقبلة.

وكان السفير الفرنسي السابق في روسيا والباحث المشارك في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إريس) جان دو غلنياستي، قد قال: إنّ (النظام الروسي كان دائماً عبر التاريخ حريصاً كل الحرص على احترام القواعد والضوابط المتعلقة بالانتخابات. هذه الانتخابات هي بمنزلة اختبار لشرعية وشعبية الرئيس بوتين).

وعلى الرغم من حملات التشكيك الغربية الأمريكية الأوروبية بالانتخابات والحديث عن أنها انتخابات (شكلية) و(غير ديمقراطية)، وسعي الرئيس بوتين لحكم أمة يبلغ عدد سكانها مائة وسبعة وأربعين مليون نسمة مدى الحياة، حسب وسائل الإعلام الأمريكية وتحديداً (صحيفة واشنطن بوست)، إلّا أنّ ذلك يدخل في إطار حملة غربية شرسة ومعادية تهدف إلى تشويه الانتخابات الروسية وصورة الرئيس بوتين، الذي فاز بأكثر من ثمانين بالمائة من الأصوات، حيث صوّت له أكثر من سبعة وثمانين بالمائة وفق إعلان التلفزيون الرسمي الروسي ليبقى بذلك على رأس روسيا الاتحادية لولاية جديدة.

والخلاصة أن الغرب الذي كان واثقاً إلى حدّ ما من إعادة انتخاب غريمه التقليدي بوتين لولاية رئاسية جديدة، شعر بالصدمة مجدّداً لأن حضور هذا الرجل في روسيا القوية هو أكبر مؤشّر على بداية انهيار الهيمنة الغربية على القرار العالمي، بل هو مؤشّر واضح على انهيار نظام الأحادية الغربي وولادة نظام عالمي جديد يتجاوز الغرب بالكامل.