الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

ملهاة.. ملأى بالكذب!

حسن حميد

يقيناً.. أنّ ما أراه، ويراه أهل هذا الكوكب الأرضي، في البلاد الفلسطينية العزيزة، ولاسيما في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، هو محرقة كاملة مكتملة في الصورة والمادة، قتل وبكاء، ودمار ولوعة، وتشريد وقطع للأنفاس، وأكفان مستوردة ومرتبة ومعدّة في المستودعات للفلسطينيين، وعديدهم بالملايين، وألوانها ما عادت مقصورة على اللون الأبيض.

محرقة لكلّ حيّ، وجميل، وبارق، وتاريخي، وإبداعي، ومدهش، وفذ، ولافت، ورزين، ومحترم، وطيب، وحقّ، وعزيز، ومرجعي، وسابق، ورهيف، وطري، وصلب، وعميق، وغوّار، وغال، وجذاب، ونيساني، ويخضوري، وشمسي، ومدوّن، ومرسوم، ومحبّر، ومطرّز، ومنسوج، ومرقّش، ومرقوم، ومقنطر، ومسوّر، وشجري، ونباتي، وبيتي، وشخصي، وقلبي، ومنار، وسرّاني، ومقيّد، وطليق، ورحبي، وفضائي، وهوائي.

محرقة ليست للبيوت، والناس، والشوارع، والمزارع، والحقول، والدروب، والغابات والكهوف، والمغر، والمدارس، والجامعات، والمعابد، والساحات، والكتب، والأسواق، والمحاصيل، والمستودعات، والكراجات، ومحطات السفر، ومحطات الوقود، ومحطات الفرح، ومحطات الأمان، ومحطات السرور، ومحطات الكلام، ومحطات الأسئلة، ومحطات الحوار، ومحطات إنعاش الذاكرة، ومحطات التلاقي لقول كلمة مرحبا، ومحطات شرب القهوة، وأكل السندويش، ومحطات بيع الروبابيكا، ومحطات التوالف، وعنابر التبن، وعنابر البغال والحمير والكدش والدجاج والأرانب، إنما هي محرقة للأحلام الفلسطينية أيضاً.

والعالم المتمدن، منذ 76 سنة، يتفرج من أجل صورة أجمل للرؤوس المفلوقة، والأذرع المبتورة، والأرجل التي ودعّت الدروب، والأطفال الذين ودّعوا المدارس، والأطباء الذين غادروا المشافي، وسيارات نقل المساعدات المدمرة على الطرقات، والأمهات الباكيات، والآباء الذين اشتقوا مقابر جديدة قرب البيوت، وقرب الشوارع، وقرب المشافي، وسمّوها المقابر المؤقتة، وتركوا حولها إشارات وعلامات، كتنكة فارغة، وعلبة عصير صدئة، وكرتونة بحجم الكف، وحجراً ما يزال صالحاً للاستعمال، والعالم يتفرج على الأبناء الذين توازعوا الدروب لعلهم، وبقدرة قادر، يرتطمون بكيس طحين، أو قطعة نايلون كبيرة، أو لوح زينكو، أو اسبست، أو كيس خيش فارغ، أو قضيب حديد، أو مكنسة قديمة، أو فرشة اسفنج بالية أو تكاد، أو دلو بلاستيكي من دون ثقوب، أو قميص طيّره الهواء، أو حبل ما يزال مشدوداً بين حلقتين، أو حائط ما تزال كتابته بالأحمر القاني بادية تصرخ في أذن الخلق: عائدون عائدون، باقون باقون.

عالم متمدن، يتباهى بـ “ديكاميرون” في إيطاليا، و”فاوست” في ألمانيا، و”دونكيشوت” في إسبانيا، و”صمت البحر” في فرنسا، و”وداعاً للسلاح” في أمريكا، و”عالم الأمس” في النمسا، و”عطيل” في بريطانيا، والأوذيسة في اليونان، و”بيت الدمية” في النروج، و”ليلة النجوم” في هولندا، و”بابي يار” في أوكرانيا، ويراها في المكتبات الخاصة والعامة بعيون مفتوحة ومغلقة، وبعقول مستها الأنوار مرّة والعتمة مرّات، لكنه لا يرى ما يحدث في البلاد الفلسطينية المقدسة بشجرها وقناطرها، وأنهارها ومغاراتها، وكهوفها ودروبها، وعمرانها وقمحها، وخبزها وبرتقالها، وترابها وأهلها، وكتبها وزنابقها، وزيتونها وسمسمها، وجميزها، وسدرها، وقصبها، وشوكها وجبالها، ومغتسلاتها وبطها البري، وكراكيها وسعدها، ومطرها وزيتها، وحلوها ومرها، ونهارها وليلها، وعتباتها ونوافذها، وأبوابها وقناديلها، وشمعها وأدراجها، وسقوفها وسلالها، وأولادها وبناتها، وكتبها وأحبارها، ولا يرى حرائق الحقد التي تنشر كلّ هذه الألسنة الرهيبة الأكول مثل مناشير خرافية.. ولماذا، ألكي يقال إنّ العالم أعمى! وأطرش! وأخرس! أو جبان، أو خائف.. وممن؟ من هذه الكيانية الإسرائيلية التي صنعها بيديه؟

لا ليس هذا فقط، فالعالم المتنفذ بالكوكب الأرضي، هو من بنى عمارته وتمدنه على ثنائية القوة والبطش ضد كلّ أحد! راح الهنود الحمر بالملايين قتلاً على يد الغرب، ولم يكتب الغرب كلّه، حتى هذه الساعة، كلمة اعتذار واحدة تجاه ذلك الفعل الجنوني الباطش، وقتل ودمّر وأعدم وطوى ونفى آلافاً مؤلفة من الخلق عن بلدانهم لأنهم ثاروا وقالوا له: لا.. كبيرة ومدوية، راجة وصافعة، لهذا هو الآن يتفرج على شناعته الدموية التي عاشها وورّثها ودافع عنها وجعلها عقيدة يطلبها ويدور حولها ويقدسها التي يقلدها الإسرائيليون اليوم ببراعة، شناعة دموية يقترفها الإسرائيليون أمام عينيه منذ 76 سنة بحقّ كلّ حيّ ونبيل وعفي في البلاد الفلسطينية.. وهو يصفق له، ويثني عليه.

العالم الغربي يتوق، بل يفرح، وهو يتفرج على طفولته الدموية، فالحرب وما فيها، ليست عنده سوى أُلهية سارّة بالنسبة إليه، وإلا كيف لا يردع الإسرائيليين عن الإغارة على البيوت والمشافي والمدارس والمعابد الفلسطينية ليلاً ونهاراً في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، لكي لا تصل لقمة الطعام، وحبة الدواء إلى الفلسطينيين، ثم يتبجح بأنه سيرمي صرر الطعام والأدوية للفلسطينيين، من فوق، عبر الفضاء، أو يشتق درباً بحرياً يصل قبرص بغزة، مع أن المنافذ البحرية موجودة، والمعابر البرية موجودة، ترى ما الغاية من وراء ذلك، أهو إدامة عمر الحرب، واستمرار المجازر اليومية، وتدفق الدم الفلسطيني، أم أنه لا يريد كسر خاطر الإسرائيليين؟ أيّ همروجة هذه، أيّ ملهاة محتشدة بالكذب، وعلى من يكذب الغرب، ومن هم الذين يريد إقناعهم بصوابية ما يفعله تجاه حرب إسرائيلية مستمرة منذ 76 سنة على الفلسطينيين، أيكذب على من يرى ويسمع ويعي، أم يكذب على نفسه ظنّاً منه أنْ لا أحد يرى أو يسمع أو يعي!

بلى، على الغرب المتحكم في كلّ شيء في هذا العالم أن يخجل وأن يدرك أنّ للآخر بلاداً وكرامات، وأنّ الآخر هو هبة من الله، وأن الحياة أُعطية من الله، وليست منحة من الغرب!

Hasanhamid55@yahoo.com