مجلة البعث الأسبوعية

د.نذير العظمة.. لماذا لا أغرد للموت؟

أمينة عباس

حين تسلّم جائزة الدولة التقديرية عام 2014 بيَّن الأديب ًد.نذير العظمة الذي خسرته حياتنا الثقافية مؤخراً أن وطنه لم يُخيّب ظنه وهو الذي لم يبحث فيه يوماً عن مكسب أو مصلحة شخصية، وإن أراد ذات مرة أن يتوقف ليسأل ماذا أعطاه الوطن سيسأل نفسه أولاً ماذا قدم هو لهذا الوطن الذي حضنه جسداً وروحاً وفكراً وإبداعاً، وقد ظل وهو الدمشقي حتى الصميم مؤمناً أن بلادنا ستبقى رغم كل ما حدث لها بوابة الحضارة العربية للإنسانية،ولا يستطيع أحد أن يتنكر لتاريخها وجذورها وهي التي في الحرب التي شُنّت عليها تدافع عن هويتها ووجودها الحضاري والإنساني الذي لا يُصادَر ولا يُختَزَل وهي التي قاومت الاحتلالات وانتصرت وستخرج من المأساة التي فُرضت عليها إلى مستقبل أقوى مما كانت عليه، وما آلامها ومعاناتها إلا معاناة المخاض قبل الولادة، ولأنه كان مؤمناً أن كتابة الشعر هي الخيار الأجمل في مواجهة كل البشاعة التي تعصف بنا ظل يكتب.

الهم الوطني

شغله الهم الوطني، وكتب في الفكر السياسي،وكان مؤمناً أن ما حدث في سورية جزء من مؤامرة حيكت وما زالت تحاك من الغرب، وهي مؤامرة على بلادنا مستمرة منذ العام 1918لتفكيك المنطقة مذهبياً وقد وقف في وجهها رجال عظام مثل يوسف العظمة وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش، وما أحيا هذه الفكرة اليوم عند الغرب لتقسيم العالم العربي المؤسسات اليهودية الناشطة بشكل مستمر والمموَّلة بشكل جيد،وأحزنه أن العرب أصبحوا جزءاً من هذه المؤامرة بعد أن أضحت أولويات المنطقة العربية التنمية الإنسانية على حساب المصالح القومية الكبرى.

الشعر من أجل الحياة والوطن

هو من شعراء الحداثة وجيل الرواد، ومن المؤسسين الأوائل لمجلة “شعر” وتمحور شعرُه حول الذات والوطن والمرأة، وأصدر ما ينوف على 15 مجموعة شعرية، وهو كما كان يصرح دائماً لم يكتب الشعر لأجل الشعر بل من أجل الحياة والوطن لأن الفن عامة برأيه في النهاية لا بد من وظيفة حضارية له، والشعر كأحد الفنون ليس مقبولاً دون وظيفة، لذا كان مطلوباً برأيه مواجهة بعض المبدعين الذين يتمسكون بإبداع القصيدة على حساب وظيفتها المعرفية والفكرية والهوية، ولأن الشعر حاجة ومظهر من مظاهر الحياة كان يرى أن الشعر كالخبز يزوّد الإنسان بالدم لدورته الإنسانية ويهبه آفاقاً لا يمكن للعلوم أن تقدمها إليه، لذلك انحاز للشعر وهو الذي بدأ من خلال المسرح الذي كتب له نصوصاً عديدة مهمة بعد أن وجد أن المسرح لا يحكي عن الذات الأنا وإنما عن الذات المجتمع، فالمسرحيّ لا يصور شخصياته كما يفعل الشاعر في قصائده،لذلك انتقل شيئاً فشيئاً إلى القصيدة المفردة بحثاً عن الشخصية الواحدة لأنه وجد أن السوريين يتمتعون تاريخياً بوحدة الشخصية، والعطب بدأ منذ سايكس بيكو ووعد بلفور ومحاولة فرض هوية نمطية مصلحية ليس للمنطقة وإنما لحركة الاستعمار ورغبتها في أن تسود المنطقة، والعائدة اليوم إلى المنطقة بنظرية الكانتونات وإلغاء الشخصية الوطنية، وقد كان العظمة يؤمن بأهمية الدور الذي يقوم به المبدع في حياتنا وبالتأثير الكبير الذي يحدثه، وهذا برأيه لا يتحقق إلا إذا كان إبداعه صادراً عن تجربة ذات ثقافية مقتنعة بوجهة النظر التي يستنتجها من التطورات الحادثة على الأرض لأن وجهات النظر الجاهزة برأيه لا يمكن أن تحرك الروح العربية أو السورية المعاصرة، لذلك يرى أنه لا بدّ من الإيمان بوحدة شخصيتنا ووجودنا وتاريخنا وهويتنا والوحدة الوطنية التي تقاتل من أجل أن تصون مصيرنا وحياتنا في المستقبل، مبيّناً أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نطلب من المبدع أن يكتب عن موضوع من الموضوعات لأنه يجب أن يقدم إبداعاً ناتجاً عن تجربةِ ذاتٍ مقتنعة بما تقوم به على الأرض، متصلة لا بالروح الشخصية فحسب إنما تعبّر عن الشخصية الروحية المشتركة، ولم يتفق العظمة يوماً مع مَن يشكك بقدرة الشعر على الدفاع عن هويتنا وشخصيتنا لقناعته بأن القصيدة القائمة على التجربة الإنسانية سلاح مهم لأنها مازالت وسيلة مباشرة بين المبدع والمتلقي، وهذا لم يتحقق في الفنون الأخرى، ومن هنا تكمن خطورة القصيدة وبعض الشعراء، والدليل أن بعضهم دفعوا أثماناً باهظة لمجرّد أنهم وقفوا على منبر وقالوا قصيدة، وهو منهم.

 

“الطريق إلى دمشق”

وصِفَ العظمة بشاعر القيامة لأنه اهتم بالمناضلين والشهداء في شعره، وقد يكون أكثر الشعراء كتابة عن شهداء فلسطين والحركة الوطنية في سورية،وفي ديوانه “لماذا لا أغرد للموت” (2003) غرد للشهادة والموت طريقاً إلى الحياة، مستفيداً من التراث،فزاوج بين الحداثة والأصالة، مستعيناً بالفلكلور والأسطورة والتجربة الصوفية:

“من يسطر مصيره بالشهادة فلتكن بالدم الزكي مداده، الشهادات يا بلادي جسور وصلتنا بالأنجم الوقادة”.. وتُعتَبر قصيدته “الطريق إلى دمشق” من أبرز القصائد التي كتبها وكانت بالنسبة له عودة إلى الرحم كتبها بعد أن قرر العودة من أميركا التي عاش فيها سنوات طويلة وكأنه يعيش في المنفى، وحين شعر بأنه لم يعد قادراً على الابتعاد عن وطنه وطفولته قرر العودة وكتب قصيدة “دمشق في طريقي إليها” التي نشرها في ديوان حمل عنوان”الطريق إلى دمشق” الصادر عن وزارة الثقافة–الهيئة العامة السورية للكتاب،وأغلب الشعر فيه تمجيد للمقاومة وفكرهاوالقتال بالفكر والروح والنفس والتراث والقيم الثقافية الحقيقية:”ما وصلنا إلى دمشق ولكن قد عشقنا إلى دمشق الوصولا”.. وفي قصيدة “سورية يا رحم الدنيا”يقول:”سورية إباؤك ما انكسرا.. في الساح يعلمنا الخطرا..فصمدنا نرفع رايته.. للأوج ونرتجل الظفرا.. يا شام النهضة يا شام..أعداء الأمة ما داموا.. الله سيحفظنا إما.. شهداؤك للجلى قاموا”.

 

فيرلين دمشق

جعل د.نذير العظمة شكيب الجابري يقول في إحدى أمسياته: “اليوم ولد الشعر في الشام.. نذير العظمة هو فيرلين دمشق” وفيرلين شاعر لُقّب بـ “أمير الشعر الفرنسي” وكان هذا الكلام شكلاً من أشكال التشجيع الذي قوبل به في الساحة الشعرية في بداياته في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، في حين وصفه أحمد زكي في مجلة “الفيصل” بأنه شاعر المرحلة بلا تردد”وقد تألقت صورته منذ أن خطا خطواته الأولى بلسان المبدعين آنذاك مثل بدوي الجبل الذي كان يقول دائماً لأدونيس ويوسف الخال: “اكتبا مثل نذير العظمة لنفهم ما تقولان” أما وصف العظمة بـ “فيرلين دمشق” فيعود لأن شعره كان يعتمد على الصورة والموسيقى والتفلّت من الصوغ التقليدي، إذ كان يستمد شعره من تجربته الحياتية والإنسانية، لذا بدا شعرُه بسيطاً وسهلاً وشفافاً وكثيفاً، وكانت قصيدته تصل وتبلغ رسالتها إلى القارئ دون أي حاجز بينهما، وقد اتبع نصائح أساتذته من الشعراء بألّا يكتفي بذلك وأن يصل هذا الشعر بالجذور التراثية،ولتشجيعه أكثر يذكر في حواري معه عام 2013بأن الراحل مدحت عكاش هو الذي قاده إلى الشعر وطبع مجموعته الأولى على نفقته الخاصة.

القصيدة المدورة

كان أول من ابتكر ما يسمى بالقصيدة المدورة عام 1958 ولقي إشادة كبيرة من الشاعر الأميركي روبرت لويل المسؤول عن مجلة “شعر” في شيكاغو لنشرها،فمنذ الخمسينيات وفي مرحلة باكرة ساهم في تفكيك العروض القديم من التناسب إلى وحدة التفعيلة، والتخلي عن القافية،وكان هذا الميل في تقديم إيقاع عروضي جديد ضرورياً برأيه لحرية الإبداع وإعطاء القصيدة مساحة أوسع لناحيتَي الرؤية والمضمون، ومن خلال شكل منفتح يستطيع الشاعر عبره الوصول إلى آفاق جديدة، والبداية كانت عبر قصيدته “عشر شموع” التي كتبها بعد وفاة شقيقته التي تبلغ من العمر 12 عاماً وكانت تربطه بها علاقة وثيقة جداً، ودفعه رحيلها وحزن أمه الدائم عليها إلى كتابة هذه القصيدة، وكانت أول قصيدة كاملة مدوّرة ظهرت إلى النور ونشرها لويل كاملةً في مجلة”شعر” في الوقت الذي كان يقوم بنشر مقاطع من قصائد ليوسف الخال ونزار قبانيوخليل حاوي ونازك الملائكة، وكان العظمةيرى أن قصيدة النثر في سنوات بعيدة مضت كانت موضة، أما اليوم فقد أصبحت شكلاً مشروعاً وإبداعياًوتسربت تاريخياً إلى شعرنا من تجربة ويل ويلت ويتمان الذي اتصل به أمين الريحاني وجبران خليل جبران واللذان حاولا أن يصنعا من النثر خليقة شعرية، مع إشارته إلى أن التسريبات النثرية الفرنسية كانت الأبرز في التجربة العربية، وهي تختلف برأيه نوعاً ما عن القصيدة النثرية الأميركية، وما بين هاتين التجربتين تنوعت التجارب العربية باستثناء ما صدر عن محمد الماغوط الذي اتبع فطرته الشعرية، فلم يلتفت كثيراً إلى نقل تقنيات من أي مصدر، مؤكداً أن موقف البعض المتشنج من قصيدة النثر غير طبيعي أو مقبول، فالجميع يجب أن يدرك أن كل الأشكال مشروعة في الإبداع الشعري مهما تكن، إذ لا يمكن أن نغلق النافذة على رئة الشعر في أي حال من الأحوال، مشيراً إلىأن تراجع الشعر قليلاً لناحية الشكل سببه هجوم المعارف الأخرى على الساحة المعرفية ونظرة بعض النقاد والمثقفين إليه، وبسبب تعدد الأنواع وتنازع الأجناس الأدبية فيما بينها والذي أصبح على أشده في عصرنا، مع التقدم الملحوظ للدراما في ظل وجود آليات تنقل التجربة الدرامية من المبدع إلى المتلقي بتقنيات مغرية ومحببة قادرة على إيصال الرؤية إلى المتلقي على نحو أسهل، ومع هذا كان يعتقد أن القصيدة هي آخر معقل لحرية الفرد، فهي القلعة الباقية له ليعبّر بواسطتها عن ذلك.

نذير العظمة”1930 – 2023″

تخرج د.نذير العظمة في الجامعة السورية 1954 ومارس التعليم والنشاط الثقافي في الشعر والنقد والمسرح والفكر السياسي حتى العام 1962 ثم أكمل دراساته العليا في الجامعات الأميركية في بيروت والولايات المتحدة، وحصل على الماجستير في الأدب الإنكليزي والدكتوراه في فلسفة الأدب، ودرّس في جامعات هارفرد وجورج تاون وإنديانا بورتلاند الرسمية حتى العام 1982كما درّس الأدب الحديث والمقارن في لبنان والمغرب والسعودية حتى العام 2001وله نحو خمسين كتاباً مطبوعاً وما يقارب الخمسين دراسة متعمقة في دوريات عربية وأجنبية، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، وشارك في عدة موسوعات عربية وأجنبية، وانتُخِب سكرتيراً خازناً لجمعية الاستشراف الأميركية في الغرب من أميركا وكندا،وترأس قسم الدراسات الشرق أوسطية ولجنة المال والترقي في جامعة بورتلاند الرسمية، وشارك في إنشاء عدة مجلات ثقافية، وترأس تحرير جريدة البناء، وقد تعددت الأجناس الأدبية التي لجأ إليها لكنه كان يؤكد أن شخصيته فيها كانت نفسها، وهدفه واحد في المسرحية والقصيدة والبحث العلميّ، لذلك شبَّه نفسه ببطل قصيدته “جسر الموتى” حيث البطل يموت مرتين، مرة عن ذاته ومرة أخرى عن ذات المجتمع.