سليمان عواد شاعر لم تنصفه القصيدة
سلوى عباس
في زمن يعود في التاريخ إلى عام 1981 حيث كانت البداية لي مع الحياة الوظيفية في دار البعث، وفي طريقي إلى العمل التقيت في باص النقل الداخلي بشخص سمح الملامح حزين الوجه، يقارب الستين من العمر، كان ينظر إليّ وكأنه يعرفني وأنا الغريبة في مدينة مترامية الأطراف لا أعرف فيها أحداً سوى بيت خالتي وبعض الزملاء في العمل، وتوالت لقاءاتي مع هذا الشخص حتى فاجأني يوماً بوجوده في مبنى الدار فبادرني بالسلام وعرّفني على نفسه باسم “سليمان عوّاد” وأنه يعمل في وزارة الإعلام التي نتشارك المبنى مع موظفيها، فبادلته التحية وذهبت إلى عملي وهو أكمل طريقه إلى عمله، وبعد عدة أيام عدت والتقيته في باص النقل فسلّم عليّ وسألني عن اسمي فأجبته فقدم لي ديوان شعر بعنوان:ـ “أغاني لزهرة اللوتس” موّقع باسم سليمان عواد، وأمام دهشتي بأنه شاعر أجابني بابتسامة لطيفة: “أحاول أن أتحايل على الحياة بالشعر”، فشكرته على الكتاب وكالعادة ترافقنا إلى مبنى الدار، وبعد فترة طويلة نسبياً عدت والتقيته فسألني عن رأيي بالديوان فخجلت منه أنني لم أقراه حيث لم يكن لديّ حينها اهتمامات شعرية، ووعدته أن أقرأه، وعندما قرأته أخذتني لغته السلسة والصور الشعرية التي تضمنتها قصائد الديوان وموسيقاها الخاصة، فحفز هذا الديوان رغبتي بالتعرف أكثر على هذا الشاعر وعلى شعره، ولم تكن المعلومات حينها متوفرة كما الآن، فلجأت إلى أرشيف الجريدة وعثرت على بعض الموضوعات التي تناولت تجربته الشعرية، وحسب الموضوعات التي قرأتها عنه والمجموعات الشعرية التي أصدرها أيقنت أنني متورطة مع شاعر مهم جداً فأعدت قراءة الديوان على ضوء القراءات التي قرأتها عنه، ودوّنت بعض الانطباعات التي تشكلت لدي عن الديوان، وعندما التقيته عاد وسألني إذا كنت قد قرأت الديوان فأجبته بحذر “نعم” فدعاني إلى مكتبه في الوزارة واستمع إلى رأيي والانطباعات التي سجلتها عن الديوان وقد لاحظ خجلي من أن لاأكون قد وفقت بقراءتي، ليفاجأني بأن رأيي أسعده ووعدني بديوان آخر له وكان بعنوان: “أغان بوهيمية” الذي كان قد مضى على إصداره أكثر من عشرين عاماً، فقرأته ووجدت اختلافاً كبيراً بين “الأغاني لزهرة اللوتس” و”الأغاني البوهيمية” حيث هذا الديوان يعبّر عن الشاعر في مرحلة من العمر كان متأثراً بما قرأه من شعر مترجم للعربية أو باللغة الفرنسية كأشعار رامبو وبودلير ووايتمان وآخرين.
مضت فترة طويلة لم ألتق الشاعر سليمان عواد إلى أن قرأت خبر وفاته عبر مقال للأديبة كوليت الخوري بعنوان “دمعة في العين” نشرته في مجلة “المستقبل” اللبنانية ربما أنصفته بما كتبت أكثر مما أنصفته القصيدة إذ قالت:
“وجهه الوسيم الذي أرهقته السنوات الستون، والذي حفر فيه التعب قصائد وحكايات.. وجهه المتعب يريحني، وهذه الابتسامة المضيئة لكونها مغسولة بالحزن القديم المعتّق، هذه الابتسامة العميقة التي كانت تتدفق وتتدفق، وتضيء ملامحه وشخصه والجو حوله، حتى لكأنها آتية من أغوار الأزل المتألم، ومختبئة في تجاعيد الوجه الصافي، كانت تتسرب إلى أعماق نفسي طمأنينة، والأصح كان سليمان عواد إنساناً كبيراً، تتدفق مشاعره شلالات كلمات مشعة، وصوراً مضيئة شفافة، تسكب الطبيعة الصافية في أجوائنا العكرة، وتحملنا إلى وراء الأفق، إلى هناك حيث الجمال والنقاء والمحبة…”.
الموضوعات التي تناولها عواد في مجموعاته الشعرية حملت جرأة تجلّت بالتحريض على الوعي، والانفتاح على الداخل الإنساني، وهذا الموضوع لم يكن لديه حدود عنده، فقد كان عالمه من الفرادة والتميز أنه استطاع أن يتمثل ما عرفه ويفيد منه جيداً، فشكّلت نسيجاً متآلفاً في قصيدة النثر ، وامتاز بشيئين ثمينين الأول هو هذه الرؤية المتفردة للواقع، واقع القهر والتخلف وافتقاد الحاجات الأساسية والتوق إلى إشباعها، والثاني هو هذه الصياغة الشعرية التي تستخدم عناصر الواقع حيناً فتجعل من تراكمها عالماً شعرياً موحياً أو تكثفها حيناً وتقدم لها مقابلاً تعبيرياً نابضاً بالحياة لا توليداً ذهنياً فاتراً يفتقد الصدق والحرارة.
بصمت، ومن دون ضجيج، غادر سليمان عواد حزنه وحيداً في يوم حزين من أيام عام 1984، أعلن رحيله بنبل وترك أهله ومحبيه وكل ما جاهد من أجله في الحياة، لعله يكون ذكرى أو رسالة يكملها أحد من بعده، إذ توقف ينبوعه دفعة واحدة عن التدفق بعد سأم أصاب روحه فأعلن النهاية