قلبه “في الجبال” وروحه تطوف على المحبيّن “رسول حمزاتوف” ذكريات وشهادات وآراء
البعث ألأسبوعية- نجوى صليبه
“يجب أن تكون البداية في كلّ كتابٍ جديدٍ خالية من التّحفّظات الكثيرة ومن زلّات الّلسان، وألّا تكون المقدّمة فيه طويلة جدّاً ومملّة.. فالطّائرة تضجّ لفترة طويلة قبل أن ترتفع محلّقة في السّماء.. وحده النّسر الجبلي ينطلق في السّماء الزّرقاء من فوق قمّة الجبل على الفور ومن دون مقدّمات، ثمّ يرتفع أعلى وأعلى حتّى يتحوّل إلى نقطة سوداء”.. عبارات قالها الشّاعر “رسول حمزاتوف” وبدأ فيها الدّكتور إبراهيم استنبولي كتابه الذي أعدّه وترجمه إلى العربية تحت عنوان “رسول حمزاتوف.. قلبي في الجبال”، احتفالاً بالذّكرى المئوية لولادته (1923ـ 2023)، والذي تولّى طباعته اتّحاد الكتّاب في دمشق، ثمّ يتبعها بما قاله رئيس جمهورية روسيا الاتّحادية “فلاديمير بوتين” أثناء رفع السّـتار عن تمثال “حمزاتوف” في موسكو في عام 2008 : “كنتُ أعرف رسول حمزاتوف شخصياً، ويمكنني القول بكلّ ثقة إنّه إنسان رائع ببساطة، وإنّه قدوة ومثال يحتذى به لا في داغستان فحسب، بل لدى جميع شعوب روسيا الاتّحادية، ومن هذا المنطلق سوف يكون وجود تمثال له في موسكو ضرورياً، فهو الشّخص الذي يمكن أن نقول عنه إنّه مواطن روسي بالفعل، ابن عظيم من أبناء روسيا.. لاحظوا كيف أنّ كلماته وأولى عباراته كما لو أنّها تخاطبنا جميعاً اليوم: “هو ذا الرّجاء بصوت مسموع.. احفظنا أيّها القدر، أنا وجميع الباقين من النّوايا الشّريرة، لتكن الرّوح عندي سامية، من دون أن يفارقني الأمل، وامنحني الرّجولة..آمين”.. لقد كان شاعرنا العظيم ـ وأنا أريد أن أشدد على هذا الكلام ـ يقول: “كنت أنطلق، ودائماً أنطلق من إدراك أنّ أرضاً واحدة هي التي احتضنتنا وأوقفتنا جميعاً على أقدامنا، وأنّ حياتنا سوف تكون موفقة وناجحة عندما سنكون متّحدين مع بعضنا البعض”.
وفي تقديمه للكتاب، وتحت عنوان “لكلّ امرئ من اسمه نصيب ـ رسول حمزاتوف” يقول الدّكتور بشار الجعفري سفير الجمهورية العربية السّورية في جمهورية روسيا الاتّحادية: “أجمل الأساطير والخرافات يتردد صداها في ذاكرة الجبال التي تسكن قممها النّسور، وها هي ثنائية الجبل والنّسر تقودنا إلى “النّسر الجبلي”، وهو اللقب الذي أطلق على بروميثيوس القرن العشرين الذي سكنت روحه جبال القوقاز في داغستان، حيث اكتوى بنيران عشقه لأرضها وناسها وتاريخها.. عشق صوفيّ يحاكي في بعض جوانبه روحانيات المبدعين محيي الدّين بن عربي وجلال الرّومي.. إنّه الشّاعر الرّوسي الدّاغستاني “رسول حمزاتوف”.. وكما يقول المثل العربي البليغ “لكلّ من اسمه نصيب”، فإنّ “رسول حمزاتوف” هو خبير تعبير عن مدى دقّة هذا المثل، إذ إنّ اسمه الأوّل “رسول” لازمه في رسالته الإنسانية ورافقه في مسيرة حياته، عندما مثّل، فعلاً، رسول الشّعر الدّاغستاني إلى العالم، موصلاً هذا الشّعر الذي يتغنّى بأبجدية جبال داغستان إلى قلوب وعقول أقرانه في زوايا الأرض الأربع، وقد أصرّ حمزاتوف على عالمية أدبه، مؤكّداً عدم إضفاء هوية محددة الّلون على ما يكتب، متجاوزاً بذلك حدود القوالب التّصنيفية مثل الأدب الكلاسيكي أو الرّمزي أو التّعبيري أو الرّومانسي، كما أنّه كان منفتحاً على أنغام غيره من شعراء العالم من غائبين وحاضرين، فجمعته صداقات متينة مع الأدباء العرب مثل: عبد الرّحمن الخميسي ومحمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البيّاتي وعادل الجبوري ومحمود درويش ومعين بسيسو وأيمن أبو شعر وعلي عقلة عرسان، كما جمعته أواصر متينة مع الأديبين التّركيين ناظم حكمت وعزيز نيسين، ولم ينس عباقرة الشّعر في بلاده، مضيفاً: “لقد تربّى “حمزاتوف” في بيت والده الشّاعر حمزة تسادسا الذي كان يقرأ ويكتب باللغة العربية عندما كانت هذه اللغة هي اللغة الرّسمية في داغستان، وعن والده نهل “رسول حمزاتوف” دواوين شعراء العرب الفحول كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والفرزدق وجرير وحسّان بن ثابت وأبي العتاهية والأخطل وعنترة وعمر بن أبي ربيعة”.
بدوره، يضيف الدّكتور إبراهيم استنبولي: “أثناء وجوده في سورية في عام 1983، زار “حمزاتوف” قرية ديرفول في ريف مدينة حمص، والتقى الأهالي هناك والذين يتحدّرون من جبال داغستان، وبحسب شهادة عدد من أبناء المدينة، أقام الأهالي استقبالاً حاشداً وحافلاً للضّيف الكبير، وأمضوا ليلة كاملةً مع الشّاعر العظيم على موائد عامرة تعكس الكرم السّوري والدّاغستاني، كما زار مناطق وجود الدّاغستانيين في الجولان السّوري المحتلّ، ولا يجوز أن نغفل زيارته لحيّ ركن الدّين ولقائه، يومذاك، بالأمين العام للحزب الشّيوعي السّوري خالد بكداش”، وهنا أودّ التّنويه بضرورة العمل على أرشفة الوثائق والصّور المتعلّقة بزيارة “رسول حمزاتوف” إلى سورية والبلدان العربية، لما لهذا من دور في تطوير العلاقات الثّقافية بين داغستان والشّعوب العربية، ولا سيّما أنّه يجمع بينهم دين وتاريخ وثقافة، بالإضافة إلى أنّ “حمزاتوف” كان يقف على الدّوام إلى جانب القضايا العربية، وفي طليعتها قضية فلسطين”.
ويخصص استنبولي قسماً من الكتاب لشهادات كتّاب وشعراء ومفكّرين عرفوا “حمزاتوف” عن قرب أو بعد، ومنهم الأديب والنّاشر “فالنتين أوسيبوف” الذي كتب تحت عنوان “رؤوس أقلام بخصوص الصّورة الشّخصية من مذكّرات ناشر”: “انطبعت صورته في ذاكرتي مذ رأيته أوّل مرّة، رأس كبير مع شعر مقصوص، منتصب وقاس، غير مطيع، والغريب أنّ الشّيب كان قد خطّه باكراً، وله أنفٌ ضخمٌ ومعقوفٌ، رحت أسأل نفسي: أين سبق ورأيت مثل هذا الرّأس؟ وعلى الفور خطرت ببالي تماثيل ما كانوا يعرفون بالأشراف الرّومان الذين كانوا قبل آلاف السّنين”.
“يفغيني يفتوشينكو” أحد أشهر الشّعراء السّوفييت والرّوس في النّصف الثّاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، يقول: “ثمّة قول مأثور “الشّاعر الكبير هو طفل صغير”.. أمّا أنا فأقدّر الشّعراء أصحاب المواهب المتعددة الجوانب، الذين يستطيعون الانتقال بسهولة من التّحليق بأفكارهم العميق إلى الفكاهة المرحة والرّنانة، ومن الموضوعات السّيكولوجية المعقّدة إلى البلاغة الشّفافة واللغة البديعة، وصديقي الأفاري رسول حمزاتوف هو واحد من مثل هؤلاء الشّعراء السّوفييت.. ثمّة طفلٌ كبيرٌ ومندهش، يجول على صفحات الكتب عنده، ويلتقط بعينيه كلّ ما هو جميلٌ ومثيرٌ في العالم، ويبتسم هذا الطّفل لكلّ ما هو مفعم بالطّيبة بطريقة لا يمكن أن يبتسم فيها سوى الأطفال، وهناك إنسان ناضجٌ وحكيم يتجوّل على صفحات الكتب عند رسول حمزاتوف، وهو يدين ويحاكم بنظرته الثّاقبة الرّياء والنّفاق، كما أنّه يواجه بقبضته كلّ ما هو قبيح وشرير، مثلما يفعل الرّجال الأشداء والشّجعان”.
ويروي الشّاعر “ياكوف كوزلوفسكي” ـ أحد أهمّ مترجمي أشعار “رسول حمزاتوف” إلى الرّوسيةـ، قصّة “حمزاتوف” مع الشّيخ الجليل، يقول: “كان رسول في بداية الأمر يوقّع أشعاره باسم والده، لكن شيخاً جليلاً من آول جبلي مجاور صادف رسول في الطّريق، ولم يكن يعرف أنّ رسول يقرض الشّعر، فقال له: “قل يا بنيّ، ما الذي حدث مع أبيك المحترم؟ كان يكفي في السّابق أن أقرأ قصائده مرّة واحدة حتّى أحفظها عن ظهر قلب، أمّا الآن حتّى أنّني لم أعد أفهمها”.. لذلك حوّل رسول اسم والده حمزة إلى كنية له”.
ويستعيد استنبولي في هذا الكتاب حوارات ومقابلات صحفية مع “حمزاتوف”، ونذكر منها الحوار الذي أجرته الشّاعرة والمترجمة “مارينا أحميدوفا” ونُشر في الـ27 من شهر شباط من عام 2002 بالملحق الأدبي لجريدة “برافدا داغستان”، ونقتبس منه جواب “حمزاتوف” على سؤال “أحميدوفا” عن ارتباط الشّباب بالأدب، يقول: “لقد نوينا في اتّحاد الكتاب ومنذ زمن بعيد تنظيم مثل هذا اللقاء مع الشّباب المبدع، إذ لا يمكن لأيّ أدبٍ أن يتطوّر من دون تهيئة بدائل من الجيل الجديد، وإنّه لأمر رمزي أنّنا حددنا هذا اللقاء في الـ 14 شباط، في يوم فالنتاين المقدّس، أي في عيد الحبّ، عيد العشّاق، لأنّ الشّعر يصبح بلا معنى من دون الحبّ، فالحبّ هو مصدر الإلهام بالنّسبة للشّعر.. الشعراء والكتّاب هم أفضل خبراء اتّصال، لأنّهم يجمعون بين قلوب البشر من دون أسلاك هاتفية وهوائيات، واليوم توجد عند الأدباء الشّباب أيضاً فرصة في هذا المجال، أي أنّهم يقوموا بتوحيد قلوب النّاس بواسطة إبداعهم، إذ إنّ البشر عندنا فقدوا خلال السّنوات العشر الأخيرة القدرة على إيجاد لغة مشتركة، في حين أنّهم تبادلوا الشّتائم بما فيه الكفاية”.
وفي الحوار ذاته تسأل “أحميدوفا” الشّاعر “حمزاتوف” عن موضوع التّرجمة الأدبية، وكيف يقيّم وضعها وأحوالها، فيجيب: “لا يقوم الأدباء، اليوم، بأيّ نشاطٍ جدّيّ في هذا المجال، مع العلم أنّ التّرجمة الأدبيّة أمرٌ مهمّ جدّاً بالنّسبة للأدب الدّاغستاني، وما يزال هناك عدد لا بأس فيه من الأعمال الأدبية الرّائعة لشعراء وكتّاب من داغستان غير مترجمة إلى الرّوسية، ولم يزل ذلك الإرث الأدبي الرّائع ينتظر مترجميه الأفذاذ، وأنا لا أتّفق مع الرّأي السّائد عندنا وهو أنّ التّرجمة الأدبية جهدٌ ضائعٌ وغير مشكور، إذ إنّ الأشعار التي ترجمت بطريقة مبدعة تُقرأ بصيغة جديدة وتحمل في طيّاتها قوّة لغتين وتفاعل ثقافتين.. عندما نقرأ مثلاً سوناتات شكسبير بترجمة مارشاك صموئيل، لا نقول في قرارة أنفسنا إنّ المؤلف كان عبقرياً، وإنّ المترجم موهوب ولكنّه شاعر من حجم آخر مختلف وحسب، ما هو مهمّ بالنّسبة لنا شيء آخر، هو النّتيجة المذهلة لهذا التّفاعل الإبداعي المتبادل”.
ذكريات كثيرة تجمع أدباء ومفكرين بـ”حمزاتوف”، عملت ابنته “صالحات” على جمعها، تقول: “بدأت بكتابة هذه الذّكريات منذ عام 2002، لكن النّاس ما يزالون يمدّوني بالقصص والحكايا، وبينما أحاول الكتابة عن والدي أتذكّر أبياتاً له:
لن يستطيعوا ترجمة أشعاري
لأنّ لغزها يبقى بين السّطور
وتضيف “صالحات”: “لا يمكن لهذه الذّكريات أن تتسع لتصوّري عن أبعاد شخصيته وعن عمق عالمه الدّاخلي، لكنّ محبته للنّاس هي التي تركت انطباعاً قويّاً في الذّاكرة، وقد كانت تلك المحبة مثيرة للذّهول فعلاً، وأعتقد أنّها خلقت ردّ فعل جوابيّ، وهذا ما جعل النّاس جميعاً يبدون لي في فترة شبابي رائعين وخيّرين وغير عاديين… لم يسمح أبي لنفسه أن يقول كلاماً مازحاً بنيّة شريرة، بل كانت الأجواء تصبح أفضل دائماً بعد كلّ دعابة ينطقها، لقد صادف أن توافق عام رحيله مع الذّكرى الثّمانين لميلاده، وفي ذلك العام عرضت جميع مسارح داغستان مسرحيات مستوحاة من أعماله، ثمّ التأم مؤتمر ختامي في نهاية العام، حيث وزّعت مكافآت مادّيّة على الفنّانين والممثّلين، وبعد انتهاء الاجتماع جاء إليّ عدد من الفنّانين من المسرح القومي وقالوا لي كلاماً طيّباً عن أبي، ومن بين ما قالوه كانت ثمّة عبارة لامست مشاعري بقوّة: “إنّ بركة أبيك تساعدنا حتّى بعد رحيله”.. لقد كان إنساناً مباركاً بالفعل.. بات تقليداً، اليوم، أن يقرأ تلامذة المدارس وحتّى الصّغار في رياض الأطفال أشعار رسول حمزاتوف في النّشاطات التي تقام تخليداً لذكراه، وفي كلّ مرّة أراقب هؤلاء وهم يقرؤن أشعاره، أتذكّر أبي وأقول في نفسي: “إنّ أمنيته تحققت”، ويخيّل لي أنّ أبي ليس نائماً ـ كما حدث وظنّ بعض الحضور ذات أمسية في مكتب داغستان الوطنية التي صارت تحمل اسمه، اليوم، وإنّما كان يتحدّث معنا ويقول:
لقد شيّدت لنفسي تمثالاً من القصائد
وهو حجر غير مرتفع على هضبة
ولن يخرّب التّماثيل أحد
ما لم يختف ذلك البلد الجبلي بالكامل
ولن تختفي جزيرتي
عن خارطة الشّعر في العتم الجبلية
بل سوف ينشدون أشعاري
طالما أنّه يوجد أفاري واحد
على هذي الأرض
كيف لا وهو القائل في قصيدته “الموت لن يقترب منّي”:
كلا، لن يأتي الموت لأجلي
طالما أنّني أشيّد بيتاً
على الأرض العزيزة بنفسي
سوف يفرّ الموت هارباً
عندما سيرى الجدار وهو يرتفع
إلى الغابات خلف الجبال