ثقافة

ورحل الفلسطيني جداً

أحمد علي هلال
قبيل توقيع  كتابه الأخير، وهو في السيرة الذاتية لرحلاته المتواترة عبر الزمان والمكان، وعبر جغرافيا طليقة، لم يكن فيها نواف أبو الهيجا، الروائي، والمبدع العربي، إلا شاهداً على تشظّيها، وحاملاً حلمه، ومتأبطاً قلبه، وقلمه، ليحط في اللامكان.
في سيرته، وهي «خارج المكان» بامتياز، تحضر أحداث كثيرة، ويحضر أشخاص مبدعون، وسواهم، ليس من باب التأريخ على الأرجح، بل من باب القبض على تلك المسارات التي تنقّل بها –أبو الهيجا- ليأخذ قطعة من الحياة، ومن خلالها يبث ما انقطع به، فيؤلف فجوات رحلته، وهنا تندغم السيرة بالرواية، أليست الرواية هي السيرة المقنعة، كما جهرت بذلك غادة السمان يوماً.
كان يعد لتوقيع كتابه بشغف، وانتظار، لكن الموت هو من وقّع غيابه، وظل حفل التوقيع منتظراً صاحب الأثر علّه يعود يوماً ليهدي كتابه إلى أحبته، لعله يهدي عمراً توزع على المنافي، والمدن.. يا لهذه الذاكرة المثخنة بالرحيل الموجع، وبالغياب الأكثر ضراوة، كم لها أن تتحمّل، وهل يتسع الحزن لمن رحلوا خفافاً؟ ولعل السيرة الذاتية من تأخذنا ذات يوم لنقرأ كنه مبدع لم تنطفئ به الطريق، ولم يغادره الحبر حتى اللحظة الأخيرة، لأنه منحه كل دمه، وظل عينه، ورؤيته على تلك المصائر الفادحة التي تتهدد مثقفاً عضوياً، لتتناهبه المدن، ويتناهبه عراؤها المفتوح، ليكتب جملته الأثيرة، ويلتقط ما سكت عنه الكلام.
في رحلة إبداعه مختلفة الآفاق، والتنويعات على سيرته الأصلية، يكاد المرء، وهو يقرأ رواياته، وقصصه الأولى، وصولاً إلى روايته شديدة الوعورة «بين الحدين»، يتأمل في زمن لا يشبهه شيء، ويتأمل في حال المثقف الذي لا يملك سوى قلمه، وكلمته المثقل بهما حد الامتلاء، كيف له أن يتماهى مع أمكنة تذوب، وكيف له أن يتماهى مع أزمنة لا أزمنة لها، سوى هذه الذاكرة التي تحفر جداولها، وتتصل بالمسكوت عنه من الكلام، ليحتفي الموت أخيراً بأنه ظفر بمجرد جسد، ولم يظفر بتلك الكلمة الأخيرة التي قالها نواف أبو الهيجا، واستراح أخيراً، في عاصمة أخرى غير تلك التي كان يرنو إليها ليقيم فيها إلى الأبد، ولعل دمشق التي أتاحت له قدراً كبيراً من الكتابة فيها، ولها، وعنها، ستمتلئ بحضوره الآخر، بخطواته التي لم يعدها في دمشق، وفيما تركه من آثار إبداعية هي بحق قابلة للقراءة، والدرس، واشتقاق المعنى الأخير في رحلته، وترحاله، في قلقه النبيل، والمفتوح، وفي كلماته التي غالباً ما تأتي على استحياء، وكأنما هي تحترق في فمه، لتشي بحريق أيامه الأخرى التي ذهبت كحبات الرمل حينما تتلاشى أمام الريح، لكنه لم يذهب هو بكليته، وبأناقة روحه، فمازال مقيماً في المعنى، حارساً لسياقه، وهو من ألفه أخيراً بذهابه إلى الحضور طوعاً، وذهاب الموت إليه عادة.
نواف أبو الهيجا يمكن لأحد غيرك أن يمضي سريعاً دونما انتباهة، ولو قليلة، من القلب، لكنك أنت من حضرت بكامل فتنتك حفل توقيع كتابك «فلسطيني جداً…»، وحضرت أرواحنا، وهي من قبل تجولت في قصائدك الرهيفة، ونجزم أن قلمك الذهبي قد وقّع أسماءنا على كتابك الموسوم، وحملناه بقلوبنا ليحط كطائر غرِد أخير على شواطئ بوحنا، وأنت إذ تقول أنا لم أذهب حتى أعود، أبقى حيث تبقون، وأذهب حيث تذهبون، ما الموت سوى نكتة باردة السرد، ما الحياة سوى حلم، لكن الفرق فيمن يراه وهو بكامل حواسه، وأنا بجسدي الضامر الذي نحتته ريح العواصم من أبقى كأنين ناحل يرش على يومياتكم طلاوة إيقاعه، وسر شغفه بأن الحياة لا تتكرر إلا إذا ظل الحضور مستمراً، وهو يرتدي قميصاً نسجته الشمس، واحتضنه التراب، وصار السر العلني، في كلمة لا تموت.