ثقافة

المعنى!

غسان كامل ونوس
هل كنتَ على يقين من أنّك ستصل، فتنكّرتَ لتفاصيل الدرب التي ستحتاج إليها في الرجوع؟! وهل فكّرت في أنّك “سترجع يوماً؟! وعلامَ انطلاقك في مختلف السبل والاتّجاهات؟! أم كنت تخاتل قناعتك، أو تتحدّاها بنفسك الأمّارة بالانطلاق والإنجاز؟!.
لم يوقفْك عناء السفر المتواصل، ولا تفاصيل بداياته المتعبة، ومتونه المتقلّبة، ونهاياته المنفّرة والمظفّرة، لم توهنْك العثرات والتوقّفات، والتأخّر والتعطّل آناء الليل وأطراف النهار، لم تشغلك المحبِطات والمنكّرات والمزهّدات التي تأتي من نفسك أحياناً، ومن شعورك الداخلي الذي تحاول قمعه، فيخرج عبوساً مفزعاً، أو نهدات متقطّعة، أو متطاولة، أو صمماً عن أيّة مشاركة من جار جليس، أو سائق حشور، تنشغل بمراجعات مطلوبة حيناً، وبمتابعات غير ضروريّة أحياناً، وبنوم بلا نعاس، ونعاس بلا نوم.. تنشدّ إلى غروبٍ ملحّ، أو شروق وشيك، إلى امتدادات قاحلة متعرّجة السفوح، أو منبسطة الآل، أو خضرة شاحبة مرميّة في صحراء متصابرة بخشوع، أو متناهية بيأس، أو متّشحة بغبار لا يكاد المطر القليل الزيارة أن يزيل عنه معالم الموت وملامح الاحتضار، إلى أن يتكاثف غبار من نوع آخر فوق واد آخر ذي أبنية ومآذن ومآرب أخرى، وحيوات أخرى، تتشرّبه أو تلفظه، تداريه أو تتوارى خلفه، حتّى لو كان يتخفّى رويداً، مع هبوط تدريجي كان يزدحم بالعبور المكتظّ، والاندفاع المحموم، والاحتشاد المنفّر بلا انسجامه، إلى أن صار محاصراً بالوحدة والندرة والخوف والانحسار، والانضغاط والقلق والترقّب، والحذر الذي لا ينجي من القدر المتربّص في كلّ ثانية ونبضة ونظرة وطلقة ورشقة، لن تشفع لك الستائر المطلوب إغلاقها، ولا النظرات الكسيرة حولك، والطأطأة الدهريّة بالرغم من زمنها المحدود، لن تشفع السرعة التي تمضي بها الحافلة، تسابق احترافيّة القنّاص وحداثة القنّاصة، ومحموميّة الرمي، ودقّة التسديد، ونسبة الإصابة المرتفعة، لن تفكّر في من حذّرك مراراً، وينبّهك دائماً، وتلحظ الرجاء في عينيه، واليأس في ملامحه، والعجز في “دِر بالك على حالك”، من دون أن يسأل، أو تتساءل، كي لا تسخر منه أو من نفسك، أو من الحالة برمّتها: كيف يمكنك ذلك؟! هل تترجّى الراصد، أو تبتهل إلى مشغّليه، أو تتستّر بالجوانب الخربة والأبنية المشوّهة؟! أم تقطع المناطق الساخنة زحفاً أو تحليقاً على ارتفاع شاهق، أعلى من الحوّامة التي لم تسلم من السلاح المجدي، لكنّك ستهبط، أو يُفترض ذلك، كيف؟! وأين؟! وهل هناك من سبيل إلى مكان عملك أو شقائك المحسود عليه! أم هل ترتدي درعاً بلا فتحات، أو قبّعة الإخفاء التي لن تكون مجدية إلّا إذا ارتداها السائق والركاب والحافلة نفسها.
تفكّر ربّما بما سيكون حين تصل، إن وصلت، من مشكلات، بماذا ستنشغلون؟! وماذا ستنجزون؟! محاولاً ألا تتعمّق أكثر، فتصل إلى ما تفكّر به كثيراً، حول مستواهم ونواياهم وقدراتهم وصدقهم وموثوقيّتهم، كي لا تتقهقر، متمنّياً أن تعود من حيث أتيت، لو أنّك لم تخرج إلى أمنياتك، منتظراً أن يتمّ ذلك بما ليس لك به حيلة: انقطاع للطريق، معركة طويلة، إغلاق المداخل جميعها، خوف الركّاب ومطالبتهم بذلك، وتخوّف السائق من الأعظم، السائق الذي ينتظر أمراً لا يصل، لأنّ التغطية معدومة، والعاجز عن اتّخاذ موقف، بالرغم من التأكيد المدوّن على بطاقة السفر، بأنّه قائد الرحلة المسؤول أولاً وأخيراً عن أيّ قرار بشأنها! لعلّه لم يجد حلّاً مثلك، لم يجد حلّاً يرضيك، وإذا ما حدث ذلك اليوم، وعاد أدراجه، فغداً سيأتي، وسيقع ربّما في الموقف ذاته، فلماذا يضع نفسه في مآزق دائمة، سيستمرّ في تقدّمه، حتّى بوجود عذر قاهر لطالما وقع، ولطالما وقع به: إصابات طائشة، وطلقات تخترق السقف والجدران بخسائر أو من دونها، وتوقّف لساعات في لا محطّات.. المحطّات ألغيت بعد أن تناقصت واحدة بعد أخرى، كان ذلك مفاخرة للسائق، وتحدّياً للمستثمرين الذين يشتكون إذا لم يتمّ التوقّف، ويشتكون إذا لم يتوقّف المدّة الكافية، ويشتكون ضمنيّاً، أو عبر ملامحهم منك، لأنّك لا تبتاع لنفسك شراباً أو طعاماً، وتكتفي بنوع محدّد من الحلويّات التي يمكن أن تجد تفاعلاً قبل أن يصيبها التلف، ويصيبك أيضاً، وقبل أن تصبح حلماً، لا تراودك إمكانيّة تحقيقه، وقبل أن يحتاج المعنى الذي كان إلى ما يسوّغه.