ثقافة

“قريباً من القلب” وهذا الحنين إلى النائيات

“لماذا أيقظتني حين ذهبت؟ “أليس هذا هو السؤال الجارح المفتوح على اللوعة والفقد، الموجه إلينا نحن بني البشر الذين لا ندرك قيمة الأشياء التي بين أيدينا إلا بعد أن تغادرنا ونبقى وحيدين معلقين على حبل الحنين حيث لا نحصد سوى الحسرات. هذه المقولة المهمة والراعبة بآن هي ما سنجده في ديوان “قريباً من القلب” للشاعر غسان كامل ونوس، هذا العنوان الذي يحفز على طرح الأسئلة الكثيرة حتى نكتشف أخيراً أن القريب من القلب ليس سوى الإنسان، هذا المخلوق المتعدد بأحلامه وطموحاته، الباحث أبداً عن النجاح والوصول وتحقيق الذات، لكنه في الوقت نفسه هو البائس والحزين والمحبط الذي كلما تقدم خطوة يتراجع خطوات. “لماذا أيقظتني حين ذهبت”؟
في هذه المجموعة الشعرية يخاطب الشاعر الأنا والآخر، ليس الآخر الإنسان فقط وإنما الجماد أيضاً. للجماد روح فهو يحس ويتألم. إن هذه النائيات التي لا يلتفت إليها أحد تصبح لها أرواح، وهذه إحدى مزايا الشاعر الصوفي حين يضخ دماً وروحاً في القديم والمجهول والنائي، وكذلك قدرته في الاستبطان والتأمل في الموجودات وأسرار الكون. كيف لا وهو المفتون باكتشاف البعيد والمجهول ومسكون أيضا بالأسئلة الفلسفية والكونية التي لا تنتهي.
“أيها المسرع تمهل عند أول محطة /أيها المتمهل توقف قرب أول أيكة” أليست هذه دعوة للإنسان للتفكر والتأمل وسط هذا الزحام واللهاث المحموم وراء الأشياء الاستهلاكية السريعة. ثم أليست هذه دعوة ضمنية لاكتشاف الذات عن طريق مخاطبة الآخر لاكتشاف نفسه. ثم أيضاً لنتأمل هذا المقبوس “أيتها الطريق المتربصة بالخطو والدوران المستقيم لولاك ما كان لدي كل هذا القدر من الحماسة” وأيضاً في “أيها الخطو لولاك ظللت أرضاً وكان احتمال أن تتنابت الأعشاب في أديمي”.
إنها جدلية الطريق والخطو ولولاهما لبقي الإنسان مكانه سلبياً ومستلباً عرضة للبلادة والاستسلام. وانطلاقاً من هذه الجدلية، الطريق والخطو والإنسان، تكون الدعوة الضمنية للانعتاق والانطلاق واكتشاف الآفاق. ما يعزز هذا التفسير مانجده في المقبوس التالي “الخطو الذي ذهب بنا بعيداً لن يعود /إلا بعد أن يتعرف على غبار دروب أخرى/ ويضرب الأرض بإيقاع آخر/ فربما يعود بقامة أخرى”.
أيضا تتضح في مجموعة “قريباً من القلب” مقولة الإنسان الوحيد والضعيف الذي مهما فعل لا ينجز شيئاً بل يبقى على عتبات الأشياء وعلى الأبواب لا يدخلها أبداً مهما حاول “يضحك المتسابق فرحاً بسرعته/ حتى ينظر إلى الطائر المحلق بعيداً”.
كذلك في “في النصف الأول من المسار الطويل/ انظر إلى الوراء/ لتفرح بالانجاز/ وفي النصف الثاني انظر إلى الأمام لتكتئب”. اللافت في هذا الكلام الشعري أن هناك لغة مكثفة تحتية، سرانية غير ظاهرة من القراءة الأولى وهذا جوهر الكتابة المبدعة. إن هذه اللغة التحتية تقول للأنا والآخر “الإنسان”: ستبقى مفجوعاً مهما حاولت أن تعمل، سيغلبك الطريق والطائر الضعيف، ستغلبك أبسط الأشياء.
ما يميز مجموعة “قريباً من القلب” هذه الكثافة الشعرية وهذه الصورة الرشيقة التي بدون رتوش إضافية، صورة مليئة بالكلام العادي لكنها قادرة على أن تمضي بنا بعيداً وتتركنا نتأمل. لنقرأ “لماذا أيقظتني؟ لم أنم! أقلقتني وأنت تمنحني المزيد من الألفة/ لماذا أيقظتني حين ذهبت”.
أليست هذه جدلية الحضور والغياب ملخصة بهذه الرشاقة، أليس هذا اختزالاً لكلام طويل قد يستغرق صفحات ويكون مملاً. غير أنها هنا أتت على شكل صورة شعرية مكثفة ورشيقة تتحدث عن الفقد وأننا لا ندرك أهمية الإنسان وحتى الأشياء إلا بعد الفقد، عند ذلك يستيقظ لدينا الحنين لأشياء كانت تسكننا وتعيش فينا لكننا لم ننتبه إليها.
تتجلى الكثافة الشعرية أيضاً في “الثقوب نافثات المتعة/الثقوب ممرات رصاص/الثقوب معابر إلى المجهول/الثقوب بوابات الجحيم”. ألا تحتمل الثقوب هنا الكثير من التفسير والبحث عن معنى وراء المعنى الظاهر؟ أليست الثقوب هنا الشهوات المستترة التي نخسر كثيراً حين نطلق لها العنان؟
لكن لا بد من الإشارة أننا في “قريباً من القلب” نلمس تأثراً وإعادة صياغات لمقولات قديمة، كما في “لا معنى للمساحات المتشاسعة/ إذا ما كانت الرؤى ضيقة! الرؤيا توسع المضايق والفضاءات تشحن الرؤى”. أليست هذه إعادة صياغة لعبارة النفري “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.
“قريباً من القلب” مجموعة شعرية بلا عناوين داخلية، إنها قصيدة واحدة تحمل دلالات واحدة – الإنسان.
دائماً يخاطب الشاعر هذا البعيد والعميق بآن: أيها الإنسان/ أيتها الطريق/ أيتها اللهفة /أيتها العذراء/ أيتها المسافرة / أيتها المنتظرة / أيتها العابرة / أيها الأسود لم أكن أعرف / أن الحق معك / لم أكن اعرف/ أنك تحمل كل هذا الحزن علينا/.
هكذا يبدو أن الشاعر غسان كامل ونوس في  مجموعته الشعرية  “قريباً من القلب”  لا يقف على سطح الأشياء بل يحاول الدخول إلى عمقها، ومن هنا أتت قابلية التأويل، ثم إن “قريباً من القلب” تأخذ من الصوفية الكثير حين ترى في الأشياء النائية والمهملة أرواحاً.
•”قريباً من القلب” دار شرق وغرب – دار الفرقد للطباعة والترجمة والنشر/ 2011
عماد الفياض