ثقافة

الفصول الخمسة

كان لا بدّ من الالتحاق بزملائه, شأنه شأن الحاملين أرواحهم على رؤوس الأصابع, التاركين قلوبهم على شرفات الأمهات, يتقاسمون الصباح والخبز مع العصافير والحمامات التي لا مكان لها إلا حبال الغسيل النظيفة.
الحصة التي تقسم على وطن بأكمله, لا يمكن أن تكون صغيرة على من يشقون الصخر بشبابهم وعزيمتهم, هذا هو قانون الحياة.. حتى العدل أحيانا لا يرضي دفتي الميزان, لكنّ الواجب أكبر من أن يؤجل أو أن يميل إلى طرف آخر.
كانت الفترة الأولى الأصعب والأقسى بالنسبة له, الشتاء على الأبواب والبرد في أوله كالسم تماما, هكذا علمته الأمثال والحكم.. لا شيء يدفئ القلوب إلا رسالة أو صوت قادم من جهة ما في هذه الأرض وبعض المسكنات الساخنة كالشاي أو المتة.
التأقلم مع المناخ ليس أمرا بسيطا كما يعتقده البعض, أن تبدل وجه الوسادة الذي كان يبتسم لك كل صباح بآخر عبوس مكفهر, أن تنام على سرير قاس بارد لا وجود للرحمة بين مفاصله الحديدية, الأنفاس الغريبة التي تستنشقها مجبرا ضمن حدود إسمنتية واحدة, العادات التي لم تجرب أن تمارسها حتى, والواجبات التي لم تعرف بوجودها أصلا لأنها لم تطلب منك.. إن المناخ كلمة كبيرة بالفعل.
تنشط الحسابات في هذه المرحلة, الأيام والساعات, حتى الدقائق تبعث على القلق, خاصة في النوبات الباردة وعند الفجر.. إنها تجربة جديدة عليه فهو لم يسبق أن طارد ساعة تمشي على هواها ولم يكسر خاطر دقيقة كسولة من قبل.. كان مرتاحا من صوت التكات في أذنيه, الصوت الذي يقع على الأرض ثقيلا وسط الهدوء التام.
إن تذوق الطعام من مطابخ لا أثر للأنثى بين أطباقها أمر مزعج جدا وطقس لا متعة فيه, الإحساس بأن الطعام بلا نكهة أو لون, باهت تماما من رشة ناعمة أو من لمسة رقيقة المشاعر  حتى أن لا وجود للملح فيه, الملح الذي يتساقط كاللؤلؤ من عيون ذاقت رائحة البصل, ذاك الذابل هنا وغير المستفز على الإطلاق.
مع انتهاء المرحلة الأولى تبدأ رحلة ثانية إلى مدينة ربما لم يزرها من قبل, وحتى لو فعل, المكان يختلف باختلاف الظروف، ويأخذ جماله من المناسبة. كانت وجهته إلى مدينة حدودية، أي أن المظهر العام يغلّف المدينة بشريط شائك وحذر مضاعف ولافتة تطل بألغام محتملة الانفجار في أية لحظة. وكان الربيع على الخط الفاصل يحمل باقات من شقائق النعمان والنرجس وهواء مفعم بغبار الطلع وأشياء أخرى وقفت عند غرفة التفتيش.. الاحتياط واجب حتى من الفصول!.
في المساء تجتمع صبايا المدينة عند النبع القريب منه, كل زنبقة منهن تخبئ في جديلتها حكاية وعندما تفرد واحدة شعرها لا تسمع إلا صوت النبض المستعجل لضخ الحب وسط كل ما يحدث في الجوار. وكان هو يحاول أن يتمشى قربهن بحجة الحراسة, لعله يكون سرا جميلا في جديلة أو في جيب قميص وردي ضيق التفاصيل..
بعد أن ترك قلبه في تلك المدينة الحدودية, يحرس النبع والجديلة, انتقل إلى مدينة جديدة كانت قريبة من قريته وهذا ما خفف عنه قليلا وواسى اشتياقه لكل ذرة تراب فوق الساتر الرملي. كان ينزل في إجازات متقطعة ويسهر مع الصيف على سطح بيته, فوقه السماء التي يحسبها كلها له ويجد راحته في النظر إليها ويديه مشبوكتين خلف رأسه.. عادته منذ الصغر.
هذه المرة نصيبه حيث ترك قلبه, قرب النبع تماما, عاد إلى نقطة البداية, النقطة التي أحبها ونسي قلبه في جديلتها.. لكنّ المدينة لم تعد كما كانت, رآها مصفرة متعبة والنبع جاف متصحر, الصبايا غيرن من عاداتهن, لم يعد لديهن حكايات مخبأة ولا ضحكات يقفز صداها فوق الخط الفاصل عابرا الدولة المجاورة, إنه الخريف.. أتعب الجميع بقدومه.
الفصول على اختلافها مرت أمامه وشاركته ليال طويلة لم يمر الوقت فيها.. استيقظ مع صباحات ندية طيبة وتذوق ثمارا لا تزرع في مدينته, نام في غرفة الحراسة وقلبه يضحك للنبع المطل عليه ونسي كل البرد في الشتاء الأول مع مسكن ساخن من يد صديق لطيف. الآن, ممدد ويداه مشبوكتان خلف رأسه, وصل من رحلة الفصول الأربعة بعد أن قضى في كل فصل منها حياة كاملة.. وأما الفصل الخامس الذي استراح فيه.. كان فوق السماء.. تماما حيث يحرس قلبه الحدود.
ندى محمود القيم