الصفحة الاولىزواياصحيفة البعث

حي ومقلي ومشوي!؟

د. نهلة عيسى

أنا عاشقة، مهلاً لا تتسرعوا، عشقي هو السمك، ولا أعرف ما سر هذا العشق للسمك، هل هو البحر، أم نورس عجوز وشوش في أذني يوماً ما حكايات عن فرخ سمك صغير بات اخطبوطاً!؟ قال لي: نوح في غابر الزمن، هرباً من الطوفان، حمل في سفينته من كل كائن اثنين، لكن لم يكن على سفينته سمك، لذلك بقي السمك على مر الأيام، فعلاً تاماً، وكل ما عداه ناقصاً أو مبنياً للمجهول.

ورغم أن الاثنين فعل اكتمال، إلا أنه اكتمال الاضطرار، اكتمال القلة، وغياب الند النقيض، غياب المرآة، غياب البديل، وصراع قابيل وهابيل مثال! لأنه يؤكد الاضطرار، فالوفرة نقيض الاقتتال، لأن لا أحد يخرج إلى الصيد، وكلبه يعبث ببقايا الفرائس، لأن الكلب سيرخي الذنب ويتقاعس عن الصيد، فالوفرة خيار، ولم يكن أمام قابيل خيار!

إياكم والظن أنني أدافع عن القاتل، أنا لا أدافع عن أحد، فلم أكن حاضرة، بل أفسر لماذا أحب السمك، فوحده لم يغمره ماء، ولم يمت من جوع أو ظمأ، ولم يضطر، ولم يحمل وزر أنه اختير وغيره اغتيل بالطوفان، ووحده كان رفيق السفينة، نداً لها، وليس أسيراً بها، أو ممتناً لها!؟

أحب السمك حياً ومقلياً ومشوياً، وأعرف أنني أبدو وكأنني أثرثر من الضجر، إذ ما علاقة القلة والوفرة بالقتل أو بالضجر، وما علاقة الشمس بالنهار، وما علاقة الربيع بالانتحار، والريح بالشجر، والوفرة بالصيد، والقلة بالغضب؟ صدقاً لا أعرف، ولا أبحث عن جواب، لأن الأجوبة في بلادنا، مجرد وجهة نظر، والأسئلة بحر، والخيارات بحر، والصيد سماء وأرض وبحر، والعيش كلمات متقاطعة، حلها لا يعني أنك قد انتصرت!؟.

أحب السمك، لأنه وفيّ، إن غادر موطنه مات، رغم أنه لا يرفع في سماء موطنه علم، والعديد منا غادروا لعله يموت الوطن!؟ ونسوا أنه هو السفينة، ولذلك أكره مقولة كل ثنائية اكتمال، لأنها ضجر، لأنه ربما يعمر الكون اثنان، لكن أين، في أي مكان، في أي زمان، ووسط أي أرض، ماذا أكلوا، ماذا شربوا، ماذا قالوا، بل أين إبليس الذي زيّن لهما الأرض مقراً، يا سادة: لا قيمة لاثنين مهما عظما بلا آخرين يرون في عيونهم أنهما عظماء، تذكروا: البشرية تدين لإبليس بالوجود!؟.

هل تبحثون عن إجابة؟ سأجيبكم: أعشق السمك لأنه كان في موقع اختيار، كان حراً، ليس مديناً لغير الرب بالحياة، أعشق السمك لأن لا دافع للغضب والقتل عنده إلا الجوع، على عكس البشر، إن جاعوا قتلوا، وإن شبعوا قتلوا، وإن خافوا، وإن كرهوا، وإن فرحوا، يا سادة: السمك لم يركب السفينة، رغم ذلك لم يخنها، لكن من ركبوا السفينة خانوها، هل فهمتموني؟

أحب السمك وأتمنى لو أمتلك ذاكرته سريعة العطب، وقدرته على السفر آلاف الأميال بحثاً عن مياه دافئة، وعلى التحديق بوجه الموت حين يحين الموت بعيون باردة متسعة، لا ترجو أحداً ولا تدين أحداً، ولا تنتظر بعثاً ولا يوم قيامة، وأحسده على كونه يعيش وسط المرجان، ويراه ربما مجرد قمامة، بينما يتقاتل البشر على شطوط الماء من أجل هذه القمامة!.

أحب السمك، وأحب البحر موطنه، وأتمنى لو كنت حوتاً، قرشاً، دلفيناً، أو حتى بلطية، وأعرف أن ذلك شأني، وأنني أثرثر بلا طائل، أو ربما أهذي، ولكن يا سادة: كل خطوة في يومي، وأظن يومكم شبيه يومي، تذكرني بالسمك، لأن البيوت، المكاتب، الشوارع، الأزقة، الأسواق، الشمس، الظلال، العتمة باتت شباك صيد، جميعاً نحن فيها نتخبطُ، ونُوزن، ونُباع ونُشترى، ونُقلى ونُشوى، ونُلتهم ثم على عكس ما يوصف به السمك، نُتهم بأننا طعام سيء عسير الهضم، حرام أن يُشترى!!.