دراساتصحيفة البعث

السلام بعيد عن سياسات الناتو

هيفاء علي

بينما العالم برمته مصاب بشلل شبه تام جراء وباء كورونا، وبينما يتمّ يومياً تسجيل آلاف المصابين والقتلى عبر أنحاء العالم، إضافةً إلى الخسائر الاقتصادية الكارثية، نفذت القوات العسكرية الفيدرالية التابعة للناتو مناورات كبيرة جداً في أوروبا خلال شهر حزيران. فهل يمكن أن يكون هذا ردّ فعل قوياً من القيادة الأمريكية على الملاحظة التي أبداها الرئيس الفرنسي ماكرون حول “موت الناتو دماغياً”؟ وكيف حدث هذا كله دون أي رقابة برلمانية، سواء وطنية أو أوروبية؟.

بدأ كل شيء في بولندا، أقوى حليف للولايات المتحدة، من خلال مناورة “روح الحلفاء” التي جرت في الفترة الواقعة من 5 إلى 19 حزيران الماضي كجزء من المناورة الكبيرة “الدفاع عن أوروبا” التي شارك فيها 4000 جندي أمريكي من وحدات مدرعة ومشاة إلى جانب 2000 جندي بولندي، وأكثر من 3000 دبابة، وأكثر من 9000 مركبة مدرعة، ومركبات أخرى من المستودعات التي يحتفظ بها الجيش الأمريكي في ألمانيا.

من يرى ما خلف هذه المناورات سيجد أنها هي الأولى في سلسلة من التدريبات الإستراتيجية المناهضة لروسيا، خاصة وأن الجيش الأمريكي في أوروبا يخطّط لتدريبات إضافية في الأشهر المقبلة بعد توقيع بولندا والولايات المتحدة اتفاقاً ينصّ على زيادة عدد القوات الأمريكية المتمركزة هناك من 4500 إلى 5500، ونشر ثلاث قاذفات إستراتيجية ذات قدرات تقليدية. إضافة إلى ذلك، يعتزم المسؤولون الأمريكيون وضع معدات عسكرية ثقيلة في ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا ورومانيا وبلغاريا، وربما المجر وأوكرانيا وجورجيا، كما يقول بروس غانيون، المنسق العالمي لشبكة ضد الأسلحة والطاقة النووية في الفضاء، موضحاً أن هذه الأجهزة تهدف إلى زيادة سرعة تحرك قوات الناتو إلى روسيا، ويضيف: “الموقع الأمريكي المضاد للصواريخ بالقرب من الساحل البولندي لبحر البلطيق، عند اكتماله هذا العام، سيكون جزءاً من نظام يمتد من غرينلاند إلى جزر الأزور”. وتشرف وكالة الدفاع الصاروخي، وهي وحدة تابعة للبنتاغون، على تركيب نظام الصواريخ البالستية الأرضية “إيجيس آشور” الذي بنته شركة لوكهيد مارتن.

ألمانيا تتحفظ

كانت قضية الأسلحة النووية في قلب الجدل السياسي في ألمانيا منذ أوائل أيار 2020، حيث قالت أنجيلا ميركل: “إنني أتخذ موقفاً واضحاً ضد استخدام الأسلحة النووية”. لكن في الخلفية، هناك مشروع تجديد أسطول الطائرات الألمانية. فقد قامت ألمانيا باستثمارات كبيرة في المجال العسكري، وبالتالي خدمة أهداف الناتو، لكنها متردّدة في دفع 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي كما طلب ترامب. ومع ذلك، يواصل الرئيس الأمريكي مطالبة الدول الأوروبية بالمزيد من المساهمة في تمويل الناتو من أجل المساهمة في تكاليف تمركز القوات الأمريكية على أراضيها، كما احتج على العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا وروسيا، وخاصة فيما يتعلق بمشروع “نورد ستريم” لتوريد الغاز الروسي الضروري لألمانيا في التحوّل الكامل للطاقة بعد تخليها عن محطات الطاقة النووية.

لذلك يبدو من الواضح أن الولايات المتحدة تعيد تركيز إطار عملها الاستراتيجي على بولندا الحليف القوي للغاية، كما أن القيادة الإفريقية “افريكوم” ومقر العمليات الخاصة بإفريقيا، سوف يغادران ألمانيا، كذلك من المقرّر أن تنتقل القيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا من شتوتغارت، مقرها الحالي، إلى مقر قيادة الناتو في” مونس- شاب”، حتى مقر القوات الأمريكية الخاصة في أوروبا يمكنها أيضاً الانتقال إلى مونس من شتوتغارت. وبدلاً من حشد المزيد من الجهود لمواجهة ويلات الوباء من وجهة نظر صحية واقتصادية ومن ثم اجتماعية، قرّر وزراء دفاع الناتو، الذين اجتمعوا في 17 و18 حزيران الماضي، تعزيز سياسة “الردع الأمريكية”.

حتى فرنسا رضخت للمناورات الأمريكية والتي تحدث كل 9 أشهر: هذه هي عملية “حل الأطلسي”، التي أطلقتها إدارة أوباما كجزء من تعزيز الجناح الشرقي للناتو. وبالتالي، تدلّ هذه المعطيات على أن “موت الناتو دماغياً” الذي تحدث عنه ماكرون، مجرد هراء، ذلك أن الغرض من هذه العمليات التدريبية هو “اختبار آليات التنسيق والتنقل العسكري بين الدول الأوروبية” مع المشاركة بشكل مباشر في تعزيز القدرات الأوروبية لقيادة النقل المنظم والمتزامن مع العديد من الوحدات العسكرية وتنظيم أمنها في حال حدوث أزمة.

الصين والناتو

التحدي المتزايد الآخر الذي تحدث عنه وزراء الدفاع هو التحدي المتعلّق بالصين، والذي يحتلّ للمرة الأولى قمة جدول أعمال الناتو. الصين هي الشريك التجاري للعديد من الحلفاء، لكنها في الوقت نفسه تستثمر بكثافة في أنظمة الصواريخ الجديدة التي يمكن أن تصل إلى جميع دول الناتو، كما يزعم ستولتنبرغ. وهكذا يبدأ الناتو بتصوير الصين على أنها تهديد عسكري. في الوقت نفسه، تعرض الاستثمارات الصينية في دول الحلف على أنها خطيرة.

في هذه الأماكن، قام وزراء الدفاع بتحديث المبادئ التوجيهية لـ”المرونة الوطنية”، والتي تهدف إلى منع الطاقة والنقل والاتصالات، وخاصة 5G، من أن ينتهي بها الأمر تحت “الملكية والسيطرة الأجنبية”.

هذه التدريبات والمناورات الشاملة، في خضم تفشي وباء شرس، تدفع المحلّلين والمراقبين لطرح التساؤلات التالية: بعد 75 عاماً من نهاية الحرب، لماذا يتعيّن وضع عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين على الأراضي الأوروبية؟ بعد هيروشيما وناغازاكي، لماذا لا تتخلى الولايات المتحدة عن الأسلحة النووية نهائياً؟ وماذا عن سياسة الدفاع الأوروبية التي لا تتماشى مع الأوامر الأمريكية؟ لماذا يستمر إنفاق مليارات الدولارات على المعدات العسكرية، وهي أموال لا تفيد إلا المجمّع الصناعي العسكري الذي يستمر في زعزعة استقرار العالم؟ ومتى يكون هناك سياسة سلام حقيقية تحت رعاية الأمم المتحدة، الهيئة الوحيدة التي لديها التزام بإدارة نزع السلاح النووي ونزع السلاح بشكل عام، حيث يتمّ التفاوض على الأمن والتعاون بين الشعوب؟.