مجلة البعث الأسبوعية

سورية ترسم الملامح الجيو سياسية للمنطقة.. تقدم روسي- صيني كبير وتراجع أمريكي ملفت

البعث الأسبوعية – علي اليوسف

بدأت ملامح نتائج قمة الرئيسين فلاديمير بوتين وجو بايدن – 16 حزيران 2021 في مدينة جنيف السويسرية-  بخصوص الوضع في سورية بالظهور إلى العلن، بل وبدأ تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها، ولم تنشر تفاصيلها حتى الآن. هذه الملامح لا شك أنها ستكون مقدمة تمهيدية للخطوات التالية المتمثلة بشكل رئيسي في انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسورية، وطرد القوات التركية من شمال غرب سورية، وعودة إيران إلى الأمم المتحدة. أي أن نتائج اتفاقيات جنيف  ستصل إلى مرحلة جديدة لجهة انسحاب القوات الأجنبية التي تحتل أجزاء من سورية، وانتهاء الحرب الإرهابية عليها بعد 11 عاماً من الاقتتال.

وفي زيارة لم يعلن عنها التقى الرئيس بشار الأسد نظيره الروسي في الكرملين، وما رشح عبر وسائل الإعلام يؤكد أنه بات لروسيا الدور الرئيسي في المنطقة، وأنه   إذا لم تلتزم واشنطن بوعدها، يمكن قبول سورية في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO)، التحالف العسكري الذي أقرته روسيا مع عدد من دول سوفيتية سابقة في 15 أيار 1992. وفي مثل هذه الحالة، سيزداد دعم موسكو لدمشق بشكل كبير حيث ستنتقل سورية من كونها صديقة إلى حليف، وبالتالي أي هجوم على أمنها سيكون بمثابة هجوم على روسيا.

وتعليقاً على زيارة الرئيس بشار الأسد لموسكو، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في مقابلة معه” إن روسيا تعتزم تحرير سورية بأكملها من جميع القوات الأجنبية المتمركزة بشكل غير قانوني هناك: الإسرائيلية والتركية والأمريكية”.

قبل هذه الزيارة، ألقى “إرهابيو” درعا أسلحتهم عبر وساطة روسية بامتياز بعد أن سحبت المملكة السعودية، والكيان الإسرائيلي دعمهما العسكري والمادي واللوجستي عن هؤلاء الإرهابيين. وهذا حدث مهم يشير إلى إعادة تموضع نظام تل أبيب منذ استقالة بنيامين نتنياهو، حيث يقرأ من ذلك أن الكيان الصهيوني يحرر نفسه من أيديولوجية زئيف جابوتنسكي الاستعمارية.

فقد وافقت حكومة نفتالي بينيت – رغم خطابها- ويائير لبيد على وقف دعم الجماعات الإرهابية في سورية، لكن هذا الخطاب لم يمنعها من مواصلة حربها السرية ضد إيران على الأراضي السورية واللبنانية، والإصرار على تمسكها باحتلال مرتفعات الجولان التي ضمتها بشكل غير قانوني بموجب الأمم المتحدة.

الولايات المتحدة وإرهاب “التتار”

لذلك الخطوة التالية يجب أن تكون بانسحاب القوات الأمريكية والتركية من شمال سورية، واستسلام مرتزقة “قسد”، وهروب أو ترحيل الإرهابيين المتجمعين في إدلب. وهنا تكمن المشكلة، فتركيا ترفض المغادرة، لأن إدلب بالنسبة لها تعد المنطقة التي طالبت بها منذ “القسم الوطني” عام 1920. وقد رحبت أنقرة بالاحتلال كخطوة نحو استعادة الامبراطورية العثمانية. ولهذا لن يعني انسحابها خسارة هذه الأرض فحسب، بل فشل حلمها العثماني الجديد. وهذا هو السبب في أن الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال خطابه في الجمعية العامة 76 للأمم المتحدة، أعاد إيقاظ تهديد دعمه لـ “إرهاب التتار”.

في عام 2015، أنشأت تركيا وأوكرانيا رسمياً “كتيبة إسلامية دولية” ضد ارتباط شبه جزيرة القرم بروسيا، وبعد ثلاثة أشهر أسقط الجيش التركي طائرة سوخوي روسية، مما تسبب في أزمة سياسية خطيرة. لكن هذه الحلقة لم تدم طويلاً، فقد تم التخلي عن خيار مكافحة الإرهاب ضد روسيا في عام 2016 واعتذر الرئيس أردوغان عن “الحادث”.

بعدها حاولت وكالة المخابرات المركزية اغتيال أردوغان، لكن العملية فشلت وتحولت إلى انقلاب مرتجل، لكنه فشل بدوره. وأمام دهشة الجميع، لجأت أنقرة بعد ذلك إلى موسكو ووقعت صفقة خط أنابيب الغاز التركي “ستريم”، وأخيراً شراء أنظمة إس -400 المضادة للصواريخ.

اليوم تجد أنقرة نفسها في موقف صعب وهي تقف ضد موسكو وواشنطن في نفس الوقت، من هنا إن تهديد أردوغان بإعادة تنشيط “إرهاب التتار” جدير بالمصداقية بقدر ما كان رجب طيب أردوغان، قبل أن يصبح رئيساً، لاعباً مهماً في الحروب في أفغانستان والشيشان. فقد دعمت حركة “مللي جوروش” التركية – معناها “الرؤية الوطنية”، وهي حركة سياسية دينية ومجموعة من الأحزاب الإسلامية التركية مستلهمة من نجم الدين أربكان. تأسست عام 1969-  قلب الدين حكمتيار في أفغانستان، ثم قدمت حركة “مللي جوروش” القاعدة الخلفية لإرهابيي “دوكو أوماروف”، أول أمير لإمارة إيتشكيريا في الشيشان.

من الواضح أنه من غير الممكن أن تستسلم روسيا للابتزاز التركي هذه المرة، لأنها لم تفعل ذلك في عام 2015. وموسكو ليست بروكسل، التي دفعت 5 مليارات دولار خلال ابتزاز أردوغان لملف المهاجرين. على أي حال، حتى لو لم يكن التهديد التركي مضطراً إلى المرور، فإن التصريح به يزيد المخاطر، بمعنى أن الرئيس أردوغان لا ينوي الاستسلام دون تعويض قوي.

أما في الجانب الأمريكي، إن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسورية سيترك مرتزقة “قسد” بلا حماية مثلما ترك انسحاب الجيوش الأمريكية من أفغانستان عملاء وكالة المخابرات المركزية المحليين لمصيرهم. وبالنظر إلى الجرائم التي ارتكبوها، لاسيما ضد المسيحيين العرب، بدأ الذعر يتصاعد، ولكن رغم ذلك لا تزال الدولة السورية تفتح ذراعيها لأي مفاوضات تعيد النسيج السوري إلى ما كان عليه قبل عام 2011، وتعيد الأراضي المحتلة إلى سيطرة الدولة كباقي المناطق المحررة.

في الاجتماع السري لقادة الأركان الأمريكية والروسية، الجنرال مارك أ. ميلي، وفاليري جيراسيموف، في 21 أيلول 2021 في هلسنكي ، تناول القضية السورية، لكن ليس معروفاً ما الذي قرره الرجلان، لكن الجنرال مايلي مؤيد قوي لجو بايدن ولن يفسد التزاماته.

الموقف الايراني

إيران، التي أثبتت نفسها كقوة اقتصادية في ظل محمود أحمدي نجاد، وكقوة عسكرية تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني ، اندمجت في “منظمة شانغهاي للتعاون”، بينما تعثرت المفاوضات الرسمية حول وضعها النووي، لكن رغم ذلك تتزايد الاتصالات لإطلاق هذه المفاوضات بعد أن وافقت الولايات المتحدة على وضع البحوث النووية الإيرانية في منظورها الصحيح طالما أنها سلمية. في العام الأخير من الحرب التي فرضها العراق على إيران، منعت طهران نفسها من صنع القنبلة الذرية، وهو مشروع طورته الولايات المتحدة وفرنسا مع الشاه رضا بهلوي. لم ترفع إيران هذا الحظر إلا بعد أن اغتال الرئيس دونالد ترامب الجنرال قاسم سليماني، مع العلم أنه ليس هناك ما يشير إلى أن طهران استأنفت هذا المشروع منذ ذلك الحين. حتى عندما كشفت واشنطن ولندن عن اتفاقهما النووي مع أستراليا، فهذا يعني أن هاتين القوتين الرئيسيتين لم يعد بإمكانهما اتهام إيران بالانتشار النووي.

 

يضاف إلى ذلك تخلي الولايات المتحدة عن بث الفتن بين إيران والسعودية، أي تقسيم العالم الإسلامي، حيث تجري اتصالات متعددة بين السعودية وإيران، وكان آخرها لقاء سري بين رئيسي المخابرات في البلدين في 23 أيلول 2021 في مطار بغداد، حسب ما ذكرته العديد من وسائل الإعلام.

الاتحاد الأوروبي وسورية

على الجبهة الدبلوماسية، يتم الترويج وحتى الاستعداد لإعادة فتح جميع سفارات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في دمشق تقريباً – لكن ليس الفرنسية-  ويبدو أن الاتحاد الأوروبي لديه التزامات مالية مفروضة بموجب قرار قديم للأمم المتحدة. على أي حال، تقدم بروكسل 7 مليارات دولار لإعادة بناء البنية التحتية لسورية، لكن الغريب أن المفوضية الأوروبية، التي تواصل توظيف6000 موظف حكومي بريطاني بعد أكثر من عام على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ممثلة في سورية من قبل منظمة “أوكسفام البريطانية” غير الحكومية التي دعمت جماعة “الخوذ البيضاء الإرهابية”. على أي حال، يبقى الاتحاد الأوروبي رسمياً على الموقف الذي أعلنه السفير الأمريكي جيفري فيلتمان عندما ترأس الأمم المتحدة قبل أربع سنوات: “ليس فلساً واحداً لإعادة إعمار سورية حتى يسقط النظام”.

الوضع في لبنان

السؤال الذي يبقى مفتوحاً هو ما إذا كان لبنان سيعود إلى الإدارة الروسية أم لا، والجواب- مهما كان نوعه- سيحدد دور الصين في المنطقة. في الوقت الحالي، يتوافق الرؤساء اللبنانيون الثلاثة مع الرئيس بشار الأسد. ومع ذلك، لا يبدو أن الرئيس بشار الأسد، الذي اتُهم ظلماً بالتحريض على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري والذي وجهت قواته في بيروت، لا يريد أن يلعب هذا الدور، وبالطبع سيكون هذا هو الحل الأكثر حكمة.

الدور الصيني

وفي حالة دخول روسيا على خط الأزمة في لبنان، ستتدخل الصين لإعادة بناء نهاية طريق الحرير القديم. في العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى ، ربط طريق الحرير العاصمة الصينية آنذاك، شيان، بالبحر الأبيض المتوسط ​​عبر تدمر ودمشق. وتخطط بكين لبناء طريق بري وخطوط سكك حديدية وكذلك بنية تحتية للاتصالات. وسيكون هذا نصراً مهماً للغاية للرئيسين فلاديمير بوتين وشي جين بينغ كجزء من الحرب على سورية والتي كان هدفها صريحاً وهو منع هذا المشروع.  وسيكون من المفاجئ أن تسمح الولايات المتحدة، التي أجبرت الكيان الإسرائيلي على إلغاء جميع عقودها مع بكين، لروسيا بتثبيت الصين في سورية دون مقابل.

فرنسا ولبنان

فرنسا، التي كانت ذات يوم القوة الاستعمارية للبنان وسورية، لا تنوي الإطاحة بلبنان. لعبت فرنسا والولايات المتحدة دوراً مركزياً في تعيين نجيب ميقاتي الرجل القوي الجديد كرئيس وزراء جديد. لقد فضّل الغربيون الرجل الذي هو الآن، بحسب مجلة “فوربس”، أغنى رجل في البلاد، كما كان رفيق الحريري. ولتحقيق ذلك قضوا على عائلة الحريري بمساعدة السعودية. تمت مصادرة أصول سعد الحريري  بأمر من المحكمة، ويبدو أن العملية مستمرة لمصادرة أصوله في لبنان. والكل يعلم أن نجيب ميقاتي، يعتمد على واشنطن وباريس، لأن  ثروته مشتتة تحت الوصاية الغربية. إنه رمز مثله مثل الحريري لاستخدام لبنان كدولة قرصنة في النظام الاقتصادي الغربي، وهي لا تشترك في أي من القواعد الغربية، ولكنها تستخدم في جميع المعاملات الغربية السرية، وخاصة الاتصالات. في هذا الصدد، لبنان مشابه للكيان الإسرائيلي، على الرغم من أن الكيان الصهيوني متخصص في صفقات الماس والأسلحة السرية، بما في ذلك البرمجيات، لكن في كلتا الحالتين، لا تعود أرباح الحكام بالفائدة على السكان.

يهدف دعم فرنسا لنجيب ميقاتي إلى منع لبنان من أن يصبح أمة حقيقية وليس تجمعاً للمجتمعات. لذلك ستبذل باريس قصارى جهدها لضمان انتخاب البرلمان القادم وفقاً للقواعد الجائرة التي سادت حتى الآن. لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي يتم فيه انتخاب غالبية النواب من الأب إلى الابن. ولضمان عدم تبني حكم ديمقراطي، تعتزم فرنسا نشر قواتها وتأمين مراكز الاقتراع خلال انتخابات أيار 2022، لكن إنكار أصل المشاكل يعطي الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية.

استضاف الرئيس ماكرون رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي في 24 أيلول 2021. وبمجرد تعيينه، هرع الأخير إلى قصر الإليزيه، منتهكاً بذلك الحكم المقدس الذي يقضي بعدم جواز زيارة رئيس وزراء لبناني جديد للسلطة الاستعمارية السابقة دون أن يلتقي أولاً نظرائه العرب الرئيسيين.

إذاً هي لعبة جيو سياسية بامتياز، فمن جهة بدأ التحول الأمريكي بالظهور لجهة ترك الحلفاء لمصيرهم، لأن الاهتمامات الأمريكية يجب أن تكون في مكان آخر وخاصة في المحيط الهادي. ومن جهة ثانية الاعتراف الأمريكي بأهمية الدور الروسي في المنطقة. لذلك بمجرد استقرار المشهد السياسي، يمكن أن تبدأ عمليات التنقيب واستخراج الغاز والنفط من البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي إعادة ترسيم الحدود البحرية التي تم رسمها بشكل غامض بموجب اتفاقيات “سايكس بيكو”. أي أن المنطقة برمتها مقبلة على إعادة صياغة وفق المعطى الدولي الجديد الذي بدأت ملامحه ترتسم يوماً بعد يوم.