مجلة البعث الأسبوعية

ناظم مهنا يكتب حكايته الأخيرة

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

كثيرة هي الإبداعات التي تعرفنا على جوانب حياتية لأشخاص لهم أحلامهم وآمالهم في مستقبل مشرق بعيداً عن التعقيد، والأديب ناظم مهنا من الأدباء السوريين الذين شكلت التنشئة الشعرية الركيزة الأساسية لديه فقد نشأ على القصيدة وتربى عليها، فوالده شاعر، وقد كتب الشعر ونشر قصائد كثيرة في الصحف اللبنانية، لكنه -كما يقول- ذهب إلى حقل تعبيري آخر غير المكان الذي وجد نفسه فيه منذ بداية وعيه الأدبي، وكان الدخول إلى عالم القص بالنسبة إليه كالدخول إلى مملكة جديدة، إذ يراها الفن السردي الذي هو خلاصة فنون عدة، وهي الوريث للحكاية منذ ولادتها وحتى في تحولاتها المتعددة الأشكال، دون أدنى انتقاص من قيمة الفنون الأخرى، ويضيف: هدفي من كتابة القصة هو رغبتي باكتشاف الوقائع التاريخية القديمة من خلال الأسماء الكبيرة للأماكن والشخصيات بصياغة جديدة تعطي المتلقي معرفةً شاملةً عن الأحداث، وأهم الموضوعات التي أتناولها هي موضوعات بسيطة ذهنية ومنها (مثيولوجيا) تتناول الأساطير وبعض القصص الواقعية، والقصة التي أكتبها تحاكي شخصيتي وهي هويةٌ لي، وأعتبر القصة فناً تعبيرياً أتمسّك به، كما يرى أن الكتابة القصصية هي طريقة تعبير عن الذات وعن علاقة الذات بالخارج، علاقة داخل وخارج، انفصال واتصال، وتكون الكتابةُ القصصيةُ على هذا الأساس تعبيراً أو مماحكةً تهكميةً مع العالم، والعالم هنا هو الآخرون أو الطبيعة أو المنظومات والأفكار وبالدرجة الأولى العلاقة مع اللغة التي تمنح الكاتب طاقة تشبه الطاقة التي تمنحها الشمس للكائنات الحية، وأن التجربة الكتابية الناتجة عن التأمل والمماحكة مع السرد تجعل الكاتب قادراً على تحويل الوقائع إلى مجردات ورموز والعكس أيضاً.

في كتابه “بابل الجديدة.. في الثقافة والأدب والواقع” يطالب الأديب مهنا بقراءة عميقة لما جرى، وأن نمتلك الجرأة في مواجهة أنفسنا والتخلي عن أشياء لا لزوم لها من تفكيرنا ومن عاداتنا، وأن نفكّر بعقلانية بعد أن تبرد الجراح وتستقر النفوس والأحاسيس والانفعالات، فما جرى عندنا كان كبيراً جداً، والكلمات تبدو عاجزة عن الوصف، وما حصل في سورية أمر حدث مثله أو ما يشبهه أو يذكّر به في التاريخ القديم والحديث، لكن لم يكن أبداً بهذا المستوى على مر التاريخ، إذ إن الحرب على سورية كانت شكلاً جديداً من أشكال الحروب لتدمير دولة وشعب وحضارة.

وفي مجموعته القصصية “الأرض القديمة” بيّن مهنا أنه تناول فيها الحكايات القديمة والأساطير وقدمها بطريقة حديثة، وكان بطلها المكان، وخاصة سورية- بلاد الشام، وعمل أيضاً على خلق أساطير موازية أو متواصلة مع القديمة، وفيها ما هو من الماضي كأسماء الشخصيات، وفيها ما هو من نسج الخيال، إضافة إلى حكايات أطلق عليها اسم “العلوم في الظلام” وهي تحكي حضارتنا الإسلامية والعربية، مؤكداً أن علاقته مع الماضي ليست سلفيّة، فتفكيره حديث، ووعيه للحداثة أنها تواصل وليست قطيعة، وأن الكثير من الكتّاب نجحوا في التعبير عن ذلك من خلال استثمارهم للحكايات القديمة في كتاباتهم.

جميلة لحظة اختزال الزمن بالكلمات، والأجمل تلك الشفافية التي ينقلك فيها الأديب ناظم مهنا من خلالها لتتفاعل مع صوره الوجدانية، فالمعنى من  التمازج بين الصورة والواقع هو أن تترك العنان لخيالك الجامح؟ وأديبنا قوي الوعي، يدور حول تعابيره بوحيه وخياله، نظر للحياة نظرة ثاقبة، أنطقها أسرارها في روعة وافتتان، وأحياناً الخوف من شيء ما يدفع بالأديب إلى ابتكار القناع والتورية خلف صوره التي تعتمل فيها عشرات الاهتزازات في سلسلة متواصلة من المشاهد  الحياتية المعاشة.

إن النقاء عند أديبنا يشتد كلما اشتدت البساطة، فالبساطة والنقاء يمثلان سكة واحدة لقطار إنسانية الإنسان، وقد تمكن أديبنا من تسريب مراميه عبر جدار الذاكرة، وتجارب الأديب المعاشة تتصالب وتمتد وتتداخل، لكنها لاتتشعب عبر وديان أسطورية، تأتيك صرخة في فراغ، تستهدف وعيك كموجة تتأهب للزحف، كصدمة تصيبك في الصميم لكنها لاتدميك.

جميلة لحظة اختزال الكلمات بالزمن، والأجمل عجن الذكريات بملح الواقع المعاش، لكن الحكمة تكمن في رمي الحقد خارج إطار القلب، والأديب ناظم مهنا حمل تلك الخصاصة رافضاً التعامل بها كسلعة في سوق الوعي.

برحيله المبكر كتب ناظم مهنا حكايته الأخيرة فالسلام لروحك أديبنا النبيل وألف رحمة ونور.