ثقافة

مجرّد بيان انتخابي

حكيم مرزوقي
فاجأت امرأة ريفيّة بسيطة زوجها العجوز المنهمك في متابعة شاشة التلفزيون الذي كان يعجّ بالدعايات الانتخابية من كل حدب وصوب بسؤالها:
ـ  هلّا أفهمتني  يا رجّال…ما معنى “بيان انتخابي”؟
أخذ ارتشافة طويلة من كوب الشاي جعلته يستعيد سلسلة أفكاره ثمّ أجاب:
ـ هل تتذكّرين وعودي إليك قبل زواجنا؟
ـ إيه..! كم كانت وعودك معسولة وممتعة، نسيتها من كثرتها وطولها وطول الزمن.. بالله عليك، أعدها على مسامعي ثانية.
ـ هل تحقّق منها شيء؟
ـ لا بل زادت عليها الهموم والمتاعب.. ما علاقة هذا بذاك؟ أجب عن سؤالي ولا  توقظ أوجاعي؟
ـ هذا هو مفهوم “البيان الانتخابي”.. هيّا دعيني أستمتع بطراوة حديث هذا المرشّح النيابي ولا تستكثري عليّ حتى أحلام اليقظة.
تعيش البلاد التونسية هذه الأيام على وقع البيانات الانتخابية والترشيحات البرلمانية والرئاسية، أفراداً وجماعات، يساراً ووسطاً ويميناً، ذكوراً وإناثاً، ليبراليين ومحافظين.. يبدو لي أنّني أنا الوحيد الذي لم يقدّم ترشّحه حتى بتّ مميّزاً ويشار إليه بالبنان، حتى تخيّلت نفسي ـ مع أسرتي الصغيرة ـ “الشعب الكريم” الذي يتسابق كل هؤلاء لخدمته والفوز بثقته ورضاه.
افترضت جدلاً أنّني صدّقت كل هذه البيانات وأخذت وعودها على محمل الجدّ وبرسم التحقّق، فوجدت نفسي أمشي مزهوّاً في طريق نظيفة، ظليلة وخالية من الحفر والوجوه المتعبة، أبتسم للقائمين على خدمتي والمتفانين في إسعادي وهم يحيّونني، أفاخر الأمم بوطن يطيب فيه العيش ويستحقّ كل هذه القبور التي توضع فوقها الأكاليل ويعزف على مسامعها النشيد.. ولو مرّة في العام.
نعم، لماذا لا يقع إرضاء كل هؤلاء المرشّحين دفعة واحدة، فيتم تعيينهم في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية دون حاجة لانتخابات ـ أليس كل الناس خيراً وبركة ـ  ثمّ أبقى أنا مع أسرتي شعباً واحداً يسكن بيتاً واحداً ويحلم حلماً واحداً..هل سبق أن رأيتم شعباً يحكم فرداً؟..ولكن.
قد أفكّر مثلاً في العودة يوماً للعيش في دمشق، كما كنت يوماً مع أسرتي، كيف سأترك البلاد دون شعب؟!.. وهل من شعب غيري يحكمه هؤلاء من بعدي إذا افترضنا أنّ كلّهم فائزون وحاكمون بتزكية منّي ودون اقتراع؟!
وهنا قطعت زوجتي سلسلة أحلامي وسألتني عن “البيان الانتخابي”..نعم.. قالت لي: هل أتممت كتابة “البيان الانتخابي” الذي طلبه جارنا المرشّح في الانتخابات العتيدة.
قلت: “عدلت عن الفكرة ودعيني أكتب زاويتي الأسبوعية في الجريدة”.
قالت: أين الوعد الذي قطعته لجارنا في كتابة بيانه…قلت: “مجرّد بيان انتخابي”.