ثقافة

انتحار الشاعر

عماد الفياض

ربما لأن اسمه شاعر، هو دائم اللوعة، يعيش الوحدة والعزلة، وينتابه الإحساس بأنه مرمي على حدود الكون، لا يسنده شيء سوى القصيدة، بالرغم من أنه يعطي للأبدية رعشها الحلو الجميل، مانحاً لنا ألحانه ومزاميره وشجنه، ويتركنا على حفاف الدهشة حين نكتشف كيف يلقي ناره في الجسد اليباس، ويحيله إلى قصيدة.
وربما أيضاً بسبب رومانسيته، وحساسيته المفرطة، وحلمه الكبير بإصلاح فوضى العالم، هو في اشتباك يومي مع كل شيء، ومع نفسه أيضاً، لا يستطيع الموازنة بين ما يأمل بتحقيقه، وبين أرض الواقع الرافضة لكل جديد، مشكلته تكمن فيه، هو متمرد على كل شيء، يريد تغيير العالم بطرفة عين، لكن للأسف دائماً أحلامه منكسرة، لأنها واسعة الطيف، وهكذا فإنه يصل إلى طريق مسدود، تفشل مشاريعه، وتنهزم طموحاته.
أمام كل ذلك لابد من البحث في سيكولوجيا الشاعر المختلفة عن سيكولوجيا الآخرين، ولابد من السؤال الهام: هل ينتحر الشاعر لأنه يشعر في أعماقه بالهزيمة، وأنه قد خدع الناس الذين دافع عنهم، وحلم من أجلهم؟ ثم لماذا في الوطن العربي، الشعراء وحدهم الأكثر انتحاراً بين المبدعين؟ نذكر منهم: السوري عبد الباسط الصوفي، الأردني تيسير سبّول، واللبناني خليل حاوي الذي استطاع بقامته الشعرية أن يخرج من حدود لبنان ليمتد على مساحة الشعر العربي، ويترك أثره في أجيال من الشعراء.
هناك دراسات كثيرة تحاول تتبع أسباب انتحار هؤلاء الشعراء، ففي  دراسة عن الصوفي، يقول ممدوح السكاف عنه بأنه كان رومانسياً متخبطاً في رومانسيته، مفرط الحساسية والثورة، عاطفياً، سوداوي المزاج، حاد الطبع، سريع الانفعال، يعاني من فقر مادي، وبيئة منغلقة، وفوق كل ذلك فشله في الحب، وفي دراسة بعنوان: “الشاعر القتيل”، يقول سليمان الازرعي فيها عن الشاعر الأردني تيسير سبّول بأنه شاب ذكي، عصبي المزاج، حاد الطبع، حساس وطني ثوري، مريض، شاهد انكسار حلمه القومي، وتتجرأ هذه الدراسة وتقول: إن سبّول أطلق النار على نفسه بعد حرب تشرين 1973 حين رأى المفاوضات بين المصريين والإسرائيليين في خيمة الكيلو 101 فلم يحتمل، شعر بالإهانة، وبدأ يشم رائحة هزيمة حزيران، وبالمقابل، تقول بعض الأصوات: إن سبب انتحار خليل حاوي يعود إلى فشل مشروعه الشعري، ووصوله إلى نهايته، وأنه لم يعد لديه ما يضيفه، ولا تغفل هذه الأصوات سبباً آخر، وهو فشله في علاقته مع المرأة، والأهم من ذلك أن “حاوي” فقد صوابه حين رأى الدبابات الإسرائيلية على مشارف بيروت في صيف 1982، فلم يحتمل، وما كان أمامه سوى الانتحار، لكن محمود درويش يحاول في كتابه: “ذاكرة للنسيان” استبطان سبب انتحار خليل حاوي: “لقد سئم الحضيض، سئم الإطلال على هاوية لا قاع لها.. كان وحيداً، بلا فكرة، ولا امرأة، ولا قصيدة، ولا وعد، وماذا بعد وقوع بيروت في الحصار؟”، لكن اللافت للانتباه أن محمود درويش نفسه كان قد فكر بالانتحار، لأنه يقول في كتابه مستكملاً حديثه عن انتحار خليل حاوي: “لا أريد أن أرى ما فعله نيابة عني، لقد خطرت الفكرة نفسها على بالي وتراجَعت أو تراجعتُ” .
أعتقد أن جميع ما قيل عن انتحار الشاعر يبقى ناقصاً رغم ما فيه من حقيقة، فهل من الحكمة أن ينتحر الشاعر بسبب فشله مع المرأة، أو لأن مشروعه الشعري وصل إلى نهايته، ولم يبق أمامه سوى الانتحار؟ وهل يعقل أن يطلق خليل حاوي النار على نفسه بدل أن يطلقها على العدو؟ إذ كيف ينتحر شاعر الانبعاث وصاحب قصيدة الجسر بهذه البساطة؟..
يعبرون الجسر في الصبح خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسراً جديدْ
من كهوف الشرق
من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد.
ولكن عند تتبع شعر هؤلاء نجد أن هناك بذوراً تدل على إمكانية الانتحار، ربما بسبب السأم من كل شيء، وفقدان التوازن في هذا العالم الغريب، المقلوب على رأسه لدينا نحن العرب، المثال الصارخ الذي نجده لدى خليل حاوي يتمثّل في المقطع التالي:
فاتني طبع المجاهد
لم أعد غير مشاهد
فلأمت غير شهيد
مفصحاً عن غصة الإفصاح
في قطع وريد.
من هنا يبدو أن “حاوي” كان لديه استعداد قديم للانتحار، لكنه أجّل ذلك إلى أن كان اتخاذ القرار في ذلك اليوم المشؤوم، ربما ليكون مبرراً ومشروعاً، بينما وجدت مع سبّول قصيدة بعد انتحاره ترشح بما سيؤول إليه الحال:
أنا يا صديقي
أسير مع الوهم أدري
أيمم نحو تخوم النهاية
نبياً غريب الملامح أمضي إلى غير غاية
سأسقط لابد يملأ جوفي الظلام
نبياً قتيلاً وما فاه بعد بآية.
ربما لا أحد يعرف متى كتب سبّول هذه القصيدة، لكنها تدل على الطريق المسدود الذي وصله، وفي رسالة من الصوفي إلى صديقته يقول فيها: “إن مشكلة الإنسان يا صديقتي في هذه البقعة من خريطة العالم أنه مفجوع بإنسانيته قبل كل شيء”.
من كل ما سبق، ربما ينطبق على الشاعر العربي قول المتنبي:
أنا في أمة تداركها الله          غريب كصالح في ثمود.
هكذا هو الشاعر العربي في اغتراب دائم، فجيعته تكمن في عدم قدرته على التوازن أمام الخراب الذي يلف كل شيء، إنه حزين ومكسور، وربما لامس نزار قباني الحقيقة حين قال: “هل الحزن هو الميراث الوحيد للشاعر العربي منذ سقوط رأس الحسين في كربلاء وحتى اليوم؟”.
إذاً إنه الحزن المتغلغل في روح الشاعر العربي الذي يتطلع عبر نوافذ الضوء والأمل الموصدة، فلا يرى ولا يسمع إلا رجع صدى صرخاته ونداءاته ترتد إليه وتتركه شظايا، ولكن رغم كل ما يُقال، يبقى انتحار الشاعر لغزاً.