ثقافة

سيرة مبدع في ثقافي أبي رمانة.. نجيب السراج وأسلوبه الخلاق في تلحين القصائد

“عبد الوهاب سورية” هكذا أطلق الموسيقار محمد عبد الوهاب على الفنان نجيب السراج الذي ارتبط معه بعلاقة ودية، وطالما ردد السراج “ثقافتي وهابية” نسبةً إليه، وتأثراً بفنه، لكنه ابتكر أسلوباً جديداً بتلحين القصيدة فجدد بالأغنية السورية، معتمداً على الجمل اللحنية القصيرة، وعلى التنويع في المقامات محافظاً على الأصالة والروح الموسيقية الشرقية مبتعداً عن الإيقاعات الغربية، فبلغ نتاجه 319 بين قصيدة ودور وطقطوقة، وجمع بين الغناء والتلحين والعزف على العود، دخل عالم التمثيل السينمائي بفيلم وحيد اسمه “عابر سبيل”، غنى الوصلة الأولى باسم فتى حماة من إذاعة دمشق التي ارتبط معها، عاصر جيل المثقفين وكبار شعراء عصره، وهو أول من لحّن للشاعر نزار قباني. تأثر بالاستقلال وبالأحداث السياسية التي عصفت بالأمة العربية لاسيما نكبة فلسطين، آمن برسالة الفنّ السامية فوزع ألحانه مجاناً لنشر الثقافة الموسيقية.نجيب السراج –تاريخ وفنّ، كانت محور المحاضرة الشهرية للباحث الموسيقي وضاح رجب باشا من سلسلة زمن الموسيقا الجميل في المركز الثقافي العربي (أبو رمانة).
بدأ الباحث الموسيقي محاضرته بأسلوب سرد قصصي يشبه سرد الحكواتي عن تاريخ وفنّ نجيب السراج بالتداخل مع جانب الإصغاء إلى مقاطع من أغنياته، وظّفها أثناء السرد للتوقف عند فكرة محددة، فشد الحاضرين إلى حياة هذا الفنان السوري الذي لا يعرفون الكثير عنه، ولم يحالفه الحظ ولم يحظَ بالشهرة رغم جمال صوته وبراعته بعزف العود، ربما لمعاصرته عمالقة الفن المصريين آنذاك وخاصة في زمن الوحدة، واهتمام الشباب السوري بالغناء المصري في ظل ظاهرة التجديد الموسيقي باعتماد الموسيقا على الإيقاعات الغربية كالفالس والتانغو والجاز، في المقابل بقاء السراج ضمن دائرة ألحان الموسيقا الشرقية – كما ذكر الباحث- في حين رأى بعض الحاضرين أن وسائل الإعلام وخاصة الإذاعة معنية بالأمر لأنها لاتكثر من التركيز على الفنانين السوريين في حقبة الخمسينيات والستينيات، فاندمجوا بحياة هذا الفنان الحافلة بالعطاءات.
حفظ الأغنيات من الفونوغراف
ولد السراج عام 1923 أمه كانت أرمنية أسلمت بعد زواجها وأطلقت على نفسها اسم ظريفة، عاش في بيئة متوسطة الحال وتنقل في مدارس بيروت ودمشق وحماة، لأن والده كان بائعاً متجولاً، وفي العاشرة ترك المدرسة وعمل مع عمه في حياكة وتطريز القمباز والقشطية، حفظ الأغنيات بالإصغاء إليها من خلال جهاز الفونوغراف الذي استخدمه أصحاب المحال لاجتذاب المارة، وتعلم عزف العود من الموسيقي الكفيف عبد الستار سلامة، انطلق إلى عالم الغناء من السهرات الفنية والثقافية التي كان يقيمها د.وجيه البارودي في منزله فاستمع إلى قصائد الأخطل الصغير التي لحنها وغناها عبد الوهاب، ثم تعرّف إلى عازف العود عمر النقشبندي وانضم إلى معهده لتعليم العزف على العود وأصبح صديقه، كان يغني في السهرات التي يقيمها كبار العائلات في حماة مثل آل البرازي والكيلاني، لكن مسيرته مع التلحين بدأت عام 1941 حينما ألقى د.وجيه البارودي قصيدة “إن كنت تنساني فلست تهواني” فلحّنها له، ثم لحّن قصائد للشاعر كمال فوزي الشرابي، وكان منافسه المطرب الأرمني سركيس فلحق به إلى دمشق ليكمل مسيرته على نطاق أوسع، وهناك ارتاد على نواديها مثل نادي دمشق للموسيقا، ومجمع أصدقاء الفنون.
الاستقلال ونكبة فلسطين
المحطة الهامة التي توقف عندها الباحث كانت في عام 1944حينما أقامت إذاعة دمشق مسابقة فغنى الأغنيات الشعبية التي كان يرددها مثل (سكابا – فوق النخل يا سليمى –ليش الزعل يا خالة) فأعجبت اللجنة بصوته وبغنائه الشعبي، لكنهم طلبوا منه لحناً فدوّنه له موسيقياً طارق مدحت، وأصبح ملحناً في إذاعة دمشق، ورفيق مطربي ذاك العصر مثل سركيس ورفيق شكري وتحسين جبري وماري جبران وماري عكاوي.المحطة الهامة أيضاً معرفته بالدكتور عبد السلام العجيلي والشاعر صلاح الدين النقشبندي والمطرب عزيز صادق، وفي عام 1945 قدم أول وصلة غنائية باسم فتى حماة ثم باسمه في مرحلة تألق الإذاعة السورية واستقطابها أساتذة الموسيقا والفنّ من سورية ولبنان وفلسطين، فغنى قصيدة “سرّ عينيك” لعبد السلام العجيلي، إلا أنه عاد إلى حماة بسبب الأوضاع السياسية وقصف دمشق ليعود إليها بعد الاستقلال ويتابع مسيرته الفنية ويشارك في السهرات الوطنية.وكانت أحداث فلسطين سبباً بنجاحه أيضاً، إذ تعامل مع الشاعر حسن البحيري وأحمد الجندي.
أهدني صورة
لهذه المرحلة أفرد الباحث مساحة للحديث عن حياته الخاصة، لاسيما لقاؤه جارته الشابة فتحية الخيمي التي عاشت معه قصة حبّ من خلال سماعها أغنياته وكانت أغنية “اهدني صورة” الشرارة التي أشعلت فتيل هذا الحب فتتالت اللقاءات إلى أن تزوجا عام 1950 بعد حبّ دام سنوات ومعارضة من قبل والدته. وفي هذه المرحلة تعلم من يوسف البيروني ويحيى السعودي علم التقطيع الموسيقي وتلحين الموشحات، فلّحن “هات اسقنيها من يديك وانشدي يا صبا وياظلمني حقاً”.
التنويع بالتلحين
ابتكر السراج أسلوباً جديداً في تلحين القصيدة -كما ذكر الباحث -بعيداً عن المدود، في الأسلوب التلحيني السائد آنذاك، فلحّن أكثر من مئة وأربعين قصيدة فتجاوز بذلك عبد الوهاب والسنباطي، لكنه اعتمد على القصائد الصغيرة وعلى تقطيع البيت الشعري إلى أربع جمل لحنية قصيرة وسريعة ودون مدود وعلى تغيير المقامات، أما طبقات صوته فكانت محدودة لم يمتلك القدرة على الغناء بطبقة حادة، وأجاد فنّ المواويل متأثراً بعبد الوهاب.
المرحلة الهامة التي مرّت بحياته هي تلحينه لفايزة أحمد عدة أغنيات منها أغنية علمتني الدنيا عام 1954، ثم تلحينه لسعاد محمد، لكن المنعطف الأكثر أهمية كان تلحينه قصيدة بيت الحبيبة للشاعر نزار قباني التي غناها لعبد الوهاب أثناء زيارته إلى القاهرة، فأعجب بإتقانه فنون التراث الموسيقي السوري وجمعه بين الأوف والميجنا واللالا، وأحب كلماتها، وبذلك يكون السراج هو من قدم الشاعر نزار قباني لتُلحّن قصائده.وخلال إقامته في القاهرة سجل عدة أغنيات في إذاعة صوت العرب منها يا ساحرني –أشوفك أفكر.
هدية إلى أمي
في عام 1984 فقد والدته فغنى لها “هدية إلى أمي” للشاعر علي محمد حسن ثم دخل في عزلة فنية، وتعرض لشدات نفسية إثر مرضه بورم بالأمعاء وفقدان زوجته. وفي أواخر حياته لحّن لربى الجمال وغنى بأسلوب ساحر قصيدة “من غير ليه” لعبد الوهاب بروح السراج فترك بصمة واضحة فيها.
توفي نجيب السراج عام 2003 ودفن بجانب زوجته في مقبرة الشيخ رسلان فجمعهما الحب في الحياة والممات، ولم يرزقا بأولاد لكن تاريخ السراج الفني خلّد ذكره.
ملده شويكاني