ثقافة

دفء الماغوط يبدد برودة الشتاء في ثقافي ” أبورمانة”

على غير المعتاد في هذه الظروف وفي هذا البرد القارس أن تغص المراكز الثقافية بذاك الحشد الكبير الذي توافد إلى المركز الثقافي في أبو رمانة مؤخراً لحضور ندوة حملت عنوان “الماغوط حيّ لا يموت”، وقد تابع قسم كبير من الجمهور هذه الندوة وقوفاً، وبيّنت السيدة رباب أحمد مديرة المركز أن هذا الحشد ليس بغريب على من كان يمثل نبض الشارع الذي لا يخبو أبداً وعلى من كان روحاً وثّابة متمردة تصبو إلى حرية مطلقة أسطورية وعلى من حمل صليب الإنسانية جمعاء على ظهره وهي مضرجة بعذاباتها وجراحات الانعتاق.
الفرح ليس مهنتي
وعلى غير المعتاد كذلك في ندواتنا الثقافية التي يكثر فيها الكلام والمتكلمون، خُصِّص القسم الأكبر من ندوة الماغوط لمتابعة فيلم وثائقيّ بعنوان “الفرح ليس مهنتي” إخراج حازم بخاري وهو يلخّص سيرة حياة الراحل الماغوط بلسانه عبر مجموعة من الحوارات المصورة التي أجريت معه وفي بيته على مدار عدة سنوات، إلى جانب عدد من الشهادات التي قيلت فيه من قبل شخصيات ثقافية وأدبية مثل بول شاؤول وبرهان بخاري وغيرهما، وقد أكد المخرج بخاري في تصريحه لـ”البعث” على أن أكبر مشكلة صادفته حين التحضير لهذا الفيلم هي ندرة وجود مواد فيلمية تلفزيونية عن الماغوط، وهذا ينطبق على عدد كبير من أدبائنا، مبيناً أن هذه المشكلة يجب تلافيها في المستقبل عبر تشجيع البرامج التلفزيونية التي تهدف إلى تسليط الضوء على سير أدبائنا ومثقفينا ليكون لدينا رصيد جيد من هذه البرامج التي يمكن الرجوع إليها حين الحاجة.

حارساً على بوابة الحزن
أما أسامة الماغوط –ابن أخ الراحل محمد الماغوط- الحريص في كل عام على إحياء ذكرى الماغوط، فقد أشار في تصريحه لـ “البعث” إلى ضرورة الاحتفاء بالشخصيات الأدبية والثقافية التي تُعتَبَر وجدان الشعب السوري، ومنها محمد الماغوط، موضحاً أن الاحتفاء بها كما يجب يجري من خلال الحديث عن أعمالها ونتاجها الأدبي المميز من قِبل الكتّاب والنقاد، موضحاً أن اختيار عنوان الفيلم “الفرح ليس مهنتي” لأنه العنوان الأكثر ملاءمة مع ما نعانيه اليوم برأيه، وقد أصبح الفرح ليس مهنة الشعب السوري كله وحتى يكون عنواناً واقعياً، حيث الأدب العظيم هو الذي يعكس الواقع، وكلما كان قادراً على فعل ذلك كان مصيره الخلود، وأدب الماغوط –كما أشار أسامة- ينتمي إلى هذا النوع من الأدب الذي يكاد يغيب عنه الفرح بعد أن كان الراحل الماغوط يعتبر نفسه حارساً على بوابة الحزن ولا يكتب إلا وهو مثخن بالجراح، فطغى الحزن على كل كتاباته لدرجة أنه أقر بسوداويته وانحيازه لمشاعر الحزن، في حين أنه كان يكتفي بلحظات السعادة بتعليق بسيط أو قول نكتة.

أوراق لم تُفتَح
وعن إمكانية أن يقرأ القارئ في الأيام القادمة بعضاً من كتابات الراحل الماغوط التي لم تُنشَر أكد أسامة أن لدى الماغوط الكثير من الأوراق التي لم تُفتَح، وبينها كتابات له لم يكملها، وهي لن ترى النور إلا بعد أن تسمح بذلك ابنتاه الوريثتان الشرعيتان له والموجودتان حالياً خارج سورية منذ سنوات، آسفاً لأن الأزمة جعلت من عودتهما أمراً صعباً في الوقت الحالي.. وختم أسامة كلامه مبيناً أن الماغوط لو لم يرحل منذ سنوات لقضت عليه الأزمة التي تعيشها سورية لأنه لن يتحمل ما جرى ويجري فيها.

عالمية أدب الماغوط
ولأن الماغوط قامة أدبية كبيرة، وقد رحل جسداً وبقى روحاً وفكراً بيّن الشاعر محمد عبد القدة في مداخلة له أن عالمية أدب الماغوط تم الإعلان عنها في تصريح علني أثناء اجتماع الفعاليات الثقافية على مستوى العالم في مدينة لندن في الشهر العاشر من العام 1999، حيث تم تصنيف كاتبين من الشرق، كاتبين عالميين هما أمين معلوف من لبنان والراحل محمد الماغوط من سورية، منوهاً إلى أن الماغوط دعي مرتين لتكريمه في الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَل بعض المؤسسات الفكرية، لكنه رفض لموقفه العدائي اتجاه أمريكا، وهو الذي قال: “لو نهض كريستوف من قبره واكتشف دواءً شعبياً لكل الأمراض المستعصية وعلى رأسها السرطان فلن يكفّر عن جريمته باكتشاف أمريكا”.

حزن في ضوء القمر
يُذكر أيضاً أن أسامة الماغوط كان قد قدّم مداخلة تحدّث فيها عن الراحل محمد الماغوط الذي ولد وعاش على تخوم البادية والريف في السلمية ذات النزعة الثقافية المميزة، مؤكداً أن النقاد أشاروا إلى أن من يقرأ حياة الماغوط ويطلع على شيء من أعماله ومواقفه يشعر أن حياته لا تخلو من الأسطورة، وأن أسطورته فيها الشيء الكثير من حضور شخص بروميثيوس بما تحويه من روح تمرد اتجاه السلطة بأشكالها المختلفة وحبه وإخلاصه للجنس البشري، مبيناً كذلك أن الماغوط تجاهل  كل القوانين التي تحكمت بأصول الكتابة الشعرية وخصوصاَ في مجموعته “حزن في ضوء القمر”، فكان يُعد كأب شرعي لقصيدة النثر العربية، وهو الذي كان يقول: “ليس لي عالم منظم في كتابة الشعر، إنها فوضى أشبه ما تكون بمعركة خيول في الغبار.. دائماً يكون الصدق هو بوابة قصيدتي وخاتمتها، فأنا لا أكتب إذا لم أكن مثخناً بالجراح”، مشيراُ أسامة إلى أن الماغوط تشبث بعفويته وفطرته، مؤكداً تلقائيته التي استقاها من بيئته الريفية، وكان يقول: “كنت أعتمد على الصورة في نقل انطباعاتي عن العالم، وكل ما أملكه هو القلب والعينان”.

بدأ وانتهى ساخراً
ولأن كتابة الماغوط تثبت أنه بدأ ساخراً وانتهى ساخراً تحدّث أسامة عن سخريته ذات المذاق الخاص والمختلف، وهي سخرية خارجة من مخيلة قادرة على خلق معادل مبتكر لأي حدث أو حالة، وأن الذين عرفوا الماغوط شخصياً أدركوا أنه غالباً ما رد على أسئلتهم بأجوبة فيها سخرية مرتجلة وبداهة متحفزة، وقد كان ذلك جزءاً من حضور الماغوط الشخصي وأحد أسباب فرادة تجربته الشعرية والمسرحية، منوهاً  إلى أن الماغوط علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي المعاصر عبر معجم هائل أغنى به قصيدة النثر التي بدأ كتابتها منتصف خمسينيات القرن الفائت، حيث حمل إلى بيروت أول أشعاره عبر قصيدة “القتل” كاتباً إياهاً على أوراق السجائر اللف محدثاً خلخلة في المشهد الشعري بين صفوف شعراء التفعيلة وداخل صفوف جماعة الحداثة من خلال مجلة “شعر” البيروتية.
أمينة عباس